بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 مايو 2014

لا صوت يعلو.. في الغرب عناية جابر

في الوقت ذاته الذي تتصاعد فيه الأصوات والثورات، هنا وهناك،من أجل الحرية وإسقاط الاستبداد، تتكاثر، هنا وهناك أيضاً، وفي الوقت ذاته، الخطوات الناعمة الهادفة إلى كم الأفواه. كل الأفواه، إعلامية وغير إعلامية. مفارقة
ملفتة. حتى البقاع التي اشتهرت بديمقراطيتها وبحقوق إنسانها وبحرية الكلمة فيها، وشكلت نموذجاً يحاول الكثيرون تقليده، تشهد حالياً خطوات تتميّز بالإبتعاد عن هذه التقاليد. مرة بحجة مواجهة الإرهاب ومرة بحجة محاربة الأفكار الخطيرة. لم تكن هذه النظم تحتاج في السابق إلى قمع مشهود. كان يكفي ان تشيع أحكام قيمة معينة بحق سياسي او إعلامي او مفكر حتى يبتعد الناس عنه من تلقاء أنفسهم وبدون الاضطرار إلى القانون والمحاكم.

في الغرب المعروف بالعالم الديمقراطي لم يكن، في الماضي، من الضروري، إلا في حالات الإستثناء، تحويل فيلسوف إلى المحاكمة بناء على رأي تجرأ وأعلنه في مقالة او كتاب أو بحث او دراسة مهما كان هذا الرأي نقدياً أو جذرياً. كان يكفي أن يقال انه شمولي النزعة أو معاد للسامية أو مُراجِع للتاريخ أو خشبي اللغة أو ستاليني حتى ينبذه الإعلام والمنابر العامة والجمهور الواسع على حد سواء. كان ذلك كافياً لإبعاد خطره الهدّام عن عقول الناس. لكن الصورة اليوم صارت، على ما يبدو، مختلفة تماماً. فكلما نُعت احدهم بهذه النعوت ازدادت شعبيته وصار متبوعاً وله أنصار ومحبون كثر، كتبه هي الأكثر رواجاً من غيرها ومقالاته هي الأكثر قراءة. وكلما حاصره الإعلام التقليدي راح الناس الى الإعلام الإلكتروني يلاحقه ويتبعه لمتابعة أفكاره وآخر منشوراته. 
هناك شيء ما تغيّر في هذا العالم منذ بعض الوقت. الحاكم الغربي لم يعد يتحمل النقد كما في السابق. ووسْم المفكرين ببعض النعوت لم يعد وسيلة ناجعة لمحاصرة أفكارهم. صار لا بد من التشريع. فعدنا إلى سن قوانين تمنع الفكر من مزاولة عمله الطبيعي. لم يعد أحد حراً لأن يدعو فكرياً لأي شي، مهما كان خطره على المجتمع، طالما انه لم يضبط متلبساً بممارسته عملياً. سُنّت قوانين جديدة في بعض الدول الأوروبية تمنع تناول بعض المواضيع. حتى تناولها، وليس ممارستها، لم يعد مسموحاً. صار الإعلام يحاسب على مدعويه. فهناك لائحة شرف ولائحة سوداء شبه رسمية. لم يعد يمكن توجيه نقد لسياسة اسرائيل مثلا خشية الوقوع بجرم معاداة السامية.
فماذا حدث للغرب الديمقراطي ؟ هل ضاقت به الحيل إلى هذا الحد ؟ كان الإعلام يتمتع بمقدار من الحرية والتفكير والنقاش والإعتراض والتحقيق. كان الإعلام يملك، على الأقل، إمكانات العيش المادية. كان يمكن التحكم به عن بعد من خلال التحكم بمصادر عيشه. كانت الإعلانات التجارية تحيي وتميت من دون الحاجة إلى المحاكم. وشيئاً فشيئاً فقدت الخيوط الخفية للضبط سحرها فاضطر الحكام الى التدخل المباشر وسن القوانين التي تشرع كم الأفواه تدريجاً. 
والحال لم يعد المواطن في الغرب يثق بإعلامه ولا بمفكريه الذين يتحدثون بـ ‘السياسي الصح’ اي التعبير الدارج اليوم هناك على كل شفة ولسان للقول بأن هناك خطاباً واحداً مقبولاً عملياً هو الخطاب الرسمي. كل ما يخرج عن الخطاب ‘المقبول’ لم يعد مستحباً في مرحلة أولى فيجري نقله الى ساعات الليل المتأخرة في مرحلة ثانية، ثم الى قنوات ثانوية الحضور والتأثير مقدمة للتحويل، في مرحلة لاحقة، الى محاكمة قضائية بتهمة مخالفة القوانين. من هنا وحتى يصير الإعلام وكأن المطلوب منه أن ينقل وقائع خطاب الرئيس وروزنامة استقبالاته وبيانات الحكومة وصور إنجازاتها لم يعد هناك الكثير. 
‘الجمل بنيّة والجمّال بنيّة’ يقول المثل الشعبي عندنا. اي أنه وبقدر ما تسعى الحكومات إلى كم الأفواه ومنع تناول المواضيع إلا ‘المقبول’ منها، الصح، بقدر ما يهجر الجمهور الإعلام التقليدي من تلفزة وصحف وراديوهات إلى الإعلام الجديد. وبقدر ما تحاول الحكومات كم أفواه بعض المفكرين، ومنع النشر عنهم، وبقدر ما يزدهر التجسس الرسمي على الجميع، بقدر ما يتحولون إلى رموز حرية ومصدر شبه وحيد للمعلومات. وكأن الإعلام يتحول تدريجاً إلى إعلام رسمي. للدلالة على ذلك يشير بعض الباحثين في هذا المجال إلى ظاهرة ‘ الكوبي/ باست ‘ ( النسخ/ اللصق) التي تميّز مختلف القنوات التلفزيونية. فتطابق المواضيع وتدرجها متشابه إلى حد يثير الريبة. 
نصف حجم النشرة الإخبارية صار يخصص للرياضة، حسب الرياضة المحببة في كل بلد، وربع للنشاطات الحكومية والربع الأخير لعمليات الطرد والتسريح من العمل. ثم النشرة الجوية وسحب اللوتو. أما خيارات البلد الكبرى في المجال الإقتصادي والسياسي، في المجالات الخارجية، وما يجري في العالم فلا خبر. اللهم إلا الأخبار المتعلقة بالكوارث الطبيعية أو الإنسانية الضخمة.
كان البعض يقول في الماضي ان الديمقراطية المنتشرة بالغرب مشروطة بازدهاره الإقتصادي وثراه وليست ثمرة قناعة وخيار ثقافيين. وأنه بدون هذا الرخاء الإقتصادي الذي يقوم على حساب شعوب أخرى مفقرة لا مجال ممكنا لهذه الديمقراطية. واليوم عندما بدأ الغرب الديمقراطي يعاني ما يعانيه من أزمات إقتصادية بدأنا نلاحظ تدابيره باتجاه الحد من هذه الديمقراطية وضيقه من ‘المتكلمين’ والناقمين والناقدين. 
وإذا كان من المبالغة القول بأننا وصلنا في هذه الدول إلى حالة صار معها الكلام مقموعاً وممنوعاً فليس من المبالغة بشيء القول ان الاتجاه العام لا يسير وفق المرتجى في مبادىء الديمقراطية وتعزيز أسسها في المجال الإعلامي بل وفق سيرورة تبتعد بثبات عن مبادئها وقيمها العامة. ثمة أصوات في الغرب تردد حالياً مقولات تحذر من قرب انحدار الغرب وأفوله بسبب من صعود دول جديدة حيوية الإقتصاد والإنتاجية والدخول في حرب معها. فهل هذا ما تريد الحكومات ان تخفيه عن مواطنيها؟ وهل سيزداد دور المحاكم القضائية في فصل الكلام من الآن فصاعداً؟ هل دخلنا في مرحلة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة؟
كاتبة لبنانية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق