بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 5 مايو 2014

◘ المآزق الثلاثة للإسلام السياسي -محمد الحداد

لست من هواة استعمال كلمة «إسلام سياسي»، لأنّها تتضمّن بعض الغموض الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى سوء الفهم، وأفضّل استعمال كلمة «أصولية» التي اعتبرها تياراً نشأ موازياً للإصلاحية الإسلامية ومنافساً لها، وكلاهما كان ينافس التقليديّة الإسلامية الممثلة في المؤسسات الدينية العريقة. وهذا التوزيع الثلاثي نشأ مع بداية العصر الحديث، وهو وجه من وجوه التغيرات الاجتماعية العميقة التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلامية، وكلٌّ من هذه التيارات الثلاثة يستمدّ شرعيته من علاقة معينة يقيمها بطريقته الخاصة بالتراث.
بدأت أزمة المؤسسات التقليدية مع أزمة الدولة التقليدية ذاتها التي كانت الراعي الأساسي لهذه المؤسّسات، وحدث مخاض كبير في القرن التاسع عشر كان يبشّر بنهضة جديدة، ونشأت التيارات الإصلاحية في الغالب من خارج المؤسسات التقليدية، واعتمدت وسائل عمل جديدة على تلك المؤسسات من نوع تأسيس الجمعيات والصحف. وأدّى التنافس بين التقليدية والإصلاحية إلى إضعافهما معاً، وفسح المجال لصعود الأصولية، وهي تختلف عنهما بكونها منظومة أيديولوجية مغلقة، تمّت صياغتها بين العقدين الثالث والخامس من القرن العشرين، في منافسة مع الأيديولوجيات السياسية السائدة آنذاك، كالفاشية والقومية والاشتراكية. وبما أن تلك الفترة كانت عصر الإيديولوجيات بامتياز، فإن الطابع الإيديولوجي الذي برزت عليه الأصولية مضافاً إلى توظيفها مقولات مألوفة ذات مخزون انفعالي واسع، جعلها تتقدّم بقوّة على منافسيها العلمانيين والدينيين في آن.وقد واجهت الأصولية، أو ما أصبح يطلق عليه الإسلام السياسي، ثلاثة تحدّيات كبرى فشلت فشلاً ذريعاً في مواجهتها. فالتحدّي الأول طرح عليها مع قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وسيطرة الملالي على الثورة، بما طرح توتّراً واضحاً بين أصولية شيعية وأصولية سنية، وكلاهما كان يريد أن يتناسى أن العالم الإسلامي مقسّم تقسيماً عميقاً بين المذهبين السني والشيعي. وظلت الأصولية السنية محتارة بين تقاربها مع الأصولية الشيعية بحكم الاشتراك في الأصولية، وروابطها التاريخية مع المؤسسات التقليديّة والفكر الإصلاحي باعتبار الاشتراك في الانتماء السني. وبدت الأصولية الشيعية أكثر راديكالية في توظيف الروح الأصولية، بما جعل الأصولية السنيّة تضطرب بين استنساخ تجربتها أو اعتبار هذه التجربة خطراً محدقاً بها.
باختصار، أثبتت الثورة الإيرانية أنه لا يوجد مسلمون في المطلق، وأن هناك سنة وشيعة، وهناك مصالح متناقضة، وهذا يتعارض مع الطرح اللاتاريخي للعقل الأصولي. وكما بدأت الشيوعية تنهار عندما انقسمت إلى شيوعية ستالينية في روسيا وماوية في الصين وإصلاحية في أوروبا، كذلك بدأت الأصولية تضعف بسبب التناقض والصراع بين المتنافسين على حمل لوائها.
أمّا التحدّي الثاني فتمثّل في أخطبوط العنف الذي وجدت الأصولية نفسها عاجزة عن التحكم به. وقبل حسن البنا، كان المفهوم من كلمة «الجماعة» أنها جماعة المسلمين عموماً، وكان كلّ المسلمين إخواناً ومسلمين. لكن البنّا استحوذ على مفهوم الجماعة وضيّقه وحصره في المنتمين إلى تنظيمه، وهذه بداية تقسيم المسلمين إلى فسطاطَين. وتكرّس هذا التقسيم مع مقولة جاهلية المجتمع لدى محمد قطب وسيد قطب، اقتباساً من المودودي الذي كان يعيش في مجتمع غالبيته غير مسلمة. وازداد هذا التقسيم حدّة مع الحركات «الجهاديّة» العديدة التي فرّخت من التنظيم الأصلي للأخوان، إلى أن وصلنا إلى «القاعدة»، ثمّ ما هو أعتى منها. بذلك ظلّ أخطبوط العنف يتضخّم بين المسلمين أنفسهم، وأصبح الدين يوظّف لتدمير المجتمع، بعد أن كان المقصود في الأصل استعمال الدين لتوحيد المسلمين ضدّ الغزو الاستعماري وتفعيل القيم الدينية العريقة للحفاظ على وحدة المجتمعات المهددة بالتفكك أمام الضغط العالمي.
وأخيراً، برز مع الثورات العربية الحالية تحدّ ثالث، كان كامناً لكنه أصبح ثابتاً الآن، وهو الغياب الكلّي للكفاءة في تسيير الدولة، مع أن الأصولية هي أساساً حركات إسلام سياسي وضعت قضية الدولة في محور اهتمامها. والواقع أن من كان يقرأ الأدبيات الأصولية في تنظيرها للدولة المدعوّة بالإسلامية، أو الاقتصاد المدعوّ بالإسلامي، يمكنه أن يستنتج بسهولة، إذا كان يتمتع بالحدّ الأدنى من الحسّ النقدي، أنها كلام فارغ ومبادئ فضفاضة لا يمكن أن تؤسس لشيء، وهي في أحسن الأحوال نوع من الطوباوية، إن لم تكن مجرّد تخاريف شيوخ. لكن تحول الأصولية من مواقع المعارضة إلى تسيير الدولة كشف بسرعة هذا القصور الهيكلي، وهو هيكلي لأنه لا ينتج من نقص الخبرة في تسيير الدولة بل من غياب مفهوم الدولة في الفكر الأصولي، أعني الدولة بمفهومها الحديث القائم على المواطنة والمساواة والفصل بين السلطات وضمان حاجات المواطنين والخدمات العامة. كفي للتأكّد من ذلك أن نقارن بين القدرات الهائلة على توليد العنف في أكثر من مكان مقابل القدرات المحدودة لتسيير الشأن العام في كل تجربة خاضها الإسلام السياسي من السودان إلى اليوم.
وسيترتّب على هذه التحديات الثلاثة أن الأصولية ستفقد التفوّق النوعي الذي أحرزته سابقاً على المؤسسات التقليدية من جهة، وعلى الإسلام الإصلاحي من جهة أخرى، وأن يعاد بناء المجال الديني في المجتمعات العربية بخاصة بطريقة أكثر توازناً، وهذه عملية شاقة ومعقّدة لكنها ضرورية كي نتجنب الفوضى العارمة وما هو جدير بأن يدعى حرباً دينية أو فتنة كبرى تحلّ من جديد في القرن الحادي والعشرين. لكنّها عملية لا بدّ أن توازي اعادة بناء المجال السياسي على المبادئ الحديثة للحكم، مثل المواطنة والديموقراطية وحقوق الإنسان، وإلاّ أعاد المجال السياسي إنتاج العنف وسمح للأصولية بالتضخم مجدداً، كما حدث حتى الآن.
أمام الأصولية خياران: إما أن تمضي إلى النهاية في مسلسل العنف، وإما أن تقبل بأن تتخلّص من مرجعياتها المؤسسة وتتبنّى الفكر الإصلاحي. وأمام المؤسسات الدينية فرصة لاستعادة أدوارها التاريخية بإعادة تفعيل الفكر الإصلاحي وقبول مبادئ الدولة والمجتمع الحديثين. وأمام المجتمعات العربية فرصة لتحقيق التوازن والاستقرار وتلبية المطالب الحقيقية للشعوب بالتخلّص من آخر الأيديولوجيات والطوباويات، وهي الأصولية الدينية، مثلما تخلّصت من غيرها سابقاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق