بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 9 مايو 2014

«مذكرات أفكار وذكريات» لبسمارك: صانع التاريخ حين يكتب ابراهيم العريس

قليلون جداً، في العالم، هم رجال السياسة الذين لم يتركوا للأجيال المقبلة، حكاياتهم وآراءهم ومبررات وجودهم وشتى أنواع تصرفاتهم على شكل مذكرات أو يوميات ينشرونها خلال حياتهم، أو ينجزونها في مرحلة ما من مراحل مسارهم موصين بألا تنشر إلا بعد رحيلهم. وعادة ما تكون الأحكام في ما يوصى بنشره بعد الرحيل قاسية صريحة، يرى أصحاب العلاقة أن من شأنها أن تشكل إساءة ما خالقة لهم المشاكل إن هي نُشرت وقُرئت على نطاق واسع فيما هم لا يزالون، بعد، على قيد الحياة. وما يقال عن السياسيين الغربيين بعامة في هذا المجال يمكن أيضاً قوله عن سياسيين عرب كثر، حتى وإن كنا نعرف أن كثراً آخرين من رجال السياسة العرب لا يكتبون مذكراتهم لسبب بسيط هو أن الواحد منهم يعتبر أن كتابة السياسيّ لمثل هذه المذكرات ترتبط باعتزاله السياسة أو تقاعده. ومن ذا من رجال السياسة العرب يرضى يا ترى بالاعتزال أو بالتقاعد؟ مهما يكن من أمر فإن من المنطقي لنا ألا ننظر إلى مذكرات السياسيين، عرباً كانوا أو غير عرب، على أنها لا تضم سوى الحقائق المطلقة أو أنها تصلح لتكون مرجعاً في نظرتنا إلى ما حدث حقاً في التاريخ. في أحسن الأحوال يمكن اعتبارها معبّرة، فقط، عن موقف أصحابها مما حدث، حيث من ثنايا كلامهم - وأكاذيبهم في أحوال عدة - يمكن دائماً استخلاص حقائق أو مواقف معينة تساعد على فهم ما للتاريخ.

> غير أن هذا لا يعني أن ليس ثمة بين كتابات بعض كبار رجال السياسة في العالم، نصوص رائعة تُقرأ بشغف وقوة كعلامة على العصر حتى وإن كان من المنطقي القول إنها لا تمثل الحقيقة. من هذا النوع نصوص وقعها شارل ديغول وأخرى وقعها سير ونستون تشرشل، وتاريخ حياة تروتسكي كما كتبه بنفسه. لكن الكتاب العمدة في أدب السيرة الذاتية السياسية الغربية يبقى دون ريب، كتاب بسمارك، باني مجد ألمانيا الحديثة خلال القرن التاسع عشر. والكتاب الذي وضعه بسمارك عن حياته وسيرته يتألف من ثلاثة أجزاء ويحمل عنواناً شديد الحياد هو «مذكرات، أفكار، ذكريات». والحقيقة أن المرء ما إن يبدأ بقراءة فصول هذا الكتاب حتى يكتشف أن عنوانه يظلمه كثيراً، وأن الكتاب أكثر من مجرد ذكريات وأفكار. هو بالأحرى تاريخ شخص في تاريخ أمته، وتاريخ أمة من خلال سيرة الشخص الذي ساهم في شكل أساسي في صناعة تلك الأمة. ثم هو، فوق هذا، تاريخ لعلاقة وصراع بين شخصين تشاركا معاً في بناء الإمبراطورية قبل أن تفرق السياسة بينهما. أول هذين الشخصين هو، بالطبع، الأمير اوتو فون بسمارك مؤلف الكتاب، أما الثاني فهو غليوم الثاني، الذي كان بسمارك مستشاره ووزيره وصديقه، حتى مرحلة متقدمة من الزمن، افترقا بعدها حيث بقي الإمبراطور على عرشه بينما أخلد المستشار إلى الراحة. ومن هنا، لأن بسمارك روى في الجزء الثالث من كتابه كل حكايته مع غليوم الثاني، طلب من معاونيه، ألا ينشر الجزء إلا بعد رحيل الإمبراطور. لكن الجزء نشر فقط في عام 1921، بسبب سلسلة من الأحكام والصراعات القضائية، علماً أن الجزءين الأولين كانا نشرا بعد رحيل بسمارك بأشهر قليلة، ما يعني أن ذلك السياسي والكاتب الكبير توفي قبل أن يشاهد كتابه مطبوعاً.

> إن أول ما يلاحظه قارئ كتاب بسمارك هذا هو أن أسلوب الكتابة جريء عميق يستخدم أقصى درجات ما تسمح به اللغة لرواية حكاية تاريخية هي من الجمود والجدية، في الأصل، بحيث ما كان يمكنها من ناحية مبدئية أن تسمح بما يسمى متعة القراءة. لكن النص ممتع في الحقيقة، خصوصاً أن المؤلف يبدأ برسم صورة شيقة وباهرة الألوان للبيئة التي نما خلالها طفلاً ونال تعليمه. وهي بيئة بروسيا قبل عام 1848، العام الذي شهد تلك الأحداث المفصلية في تاريخ ألمانيا، من ناحية، والذي بلغ فيه بسمارك مبلغ الشباب وصار في وسعه، هو المولود في عام 1815، أي البالغ في ذلك الحين العام الثالث والثلاثين، أن يزعم أنه قد صار له دور أساسي في الأحداث السياسية والعسكرية، ما يؤهله للمزج في بقية الفصول بين حياته الخاصة وحياة أمته. وهكذا بدءاً من ذلك العام يصبح لكل حادث خاص في مسار حياته علاقة بتطور حياة الأمة، كما يصبح لكل فصل من تاريخ حياة الأمة تأثير حاسم على حياته الشخصية. ومن هنا، انطلاقاً من هذا السياق يصبح في الإمكان قراءة «مذكرات» بسمارك، على أنها - أيضاً - تاريخ ديبلوماسي وسياسي لألمانيا، بل لأوروبا ذلك العصر أيضاً. وهنا يتحول الكتاب من طابعه الشخصي إلى طابعه العام، ومع هذا لا تخلو هذه الفصول من كل عناصر التشويق والحميمية، ذلك أن بسمارك، إذ يمزج بين التاريخين الشخصي والعام، يبقى قادراً على أن يعطي نصه ذلك القدر الكبير من التلوين الأسلوبي، حتى حين يتوقف عند بعض اللحظات التاريخية الأكثر رهافة وإثارة للتساؤلات. هنا، حتى من دون أن يجد القارئ نفسه موافقاً على كل المواقف والتبريرات، يقرأ وسط شعوره بأنه يكتشف من جديد، أحداثاً كان خيّل إليه أنه عرفها على حقيقتها وانتهى الأمر. وهكذا مثلاً، حتى إن كان المرء ضليعاً في معرفة ماذا حدث في شأن الصراع الفرنسي - الألماني أيام كومونة باريس (1870 - 1871) التي كان تدخّل القوات الألمانية بزعامة بسمارك عاملاً حاسماً في هزيمتها، وإن كان المرء من الذين لم يتوقفوا أبداً عن التنديد بالألمان بسبب ذلك التدخل الذي أجهض - من الخارج - واحدة من اكثر الحركات الثورية وعداً، يجد نفسه يقرأ بشغف ما يحكيه بسمارك عن تلك الأحداث مبرراً مدافعاً عن الموقف الألماني.

> والحقيقة أن المثال الذي سقناه بصدد الكومونة الباريسية وموقف بسمارك منها، ما هو سوى إضاءة على كل الفصول التي أعاد بسمارك من خلالها النظر بما كان يبدو مسلمات سياسية تتعلق بأحداث كانت ألمانيا بسمارك طرفاً فيها. غير أن هذا كله يبقى ثانوي الأهمية أمام الجزء الثالث من الكتاب والذي يكرّسه المؤلف بأكمله لرواية حكايته مع الإمبراطور غليوم الثاني. صحيح أن الإمبراطور موجود وبقوة في الجزءين السابقين. غير أن الأمور تتخذ طابعاً مغايراً في ذلك الجزء الثالث. إذ هنا، حتى ومن دون أن ينقص من الاحترام تجاه العاهل قيد أنملة، يلجأ بسمارك إلى أعلى درجات الصراحة والوضوح - من دون عتب أو ملامة - في مجال روايته، أولاً للشراكة في المجد الذي بناه الرجلان معاً من أجل وطنهما الألماني الذي توحد وبدأ يصبح قوة كبرى على أيديهما، ثم للخصام الذي نشأ بينهما، والذي نعرف أن بسمارك، دفع ثمنه، إذ عزل من السلطة. وعلى رغم طابعه السياسي الخالص، لا يخلو هذا الجزء الثالث من فصول أولى تروي، حياة الإمبراطور منذ طفولته التي واكبها بسمارك جيداً، حتى الشقاق الذي وقع بينهما. واللافت في هذه الرواية كلها، تلك الموضوعية الباردة التي عرف بها كيف يحكي حكاية تخصه وخلافاً دفع ثمنه. غير أن هذا لم يمنع لغة بسمارك من أن تحمل قسطاً لا بأس به من المرارة، حين وصل إلى الحديث عن إقالته وعن اختيار الإمبراطور خليفة له. هنا، وكما لو كان راغباً في أن يقول كلمة الفصل أمام التاريخ، من دون غاية مباشرة، يقدم بسمارك الحكاية ثم يتلوها بمجموعة من الوثائق التي تؤكد موقفه وتؤيده. وهو، فقط، بعد إيراده تلك الوثائق، يبدأ بالتحول من الكلام الودي والمحايد تجاه الإمبراطور إلى الكلام القاسي... مركزاً على خفة هذا الأخير في اتخاذ أحكامه وقراراته، خفة تنبَّأ المستشار العجوز منذ ذلك الحين بأنها ستكلف الأمة الألمانية غالياً.

> لقد مات بسمارك في عام 1898 حزيناً، ولكن من دون أن يؤثر اعتزاله في كرامته ومجده. لكن الأهم من هذا أن السنوات المقبلة، لا سيما أحداث الحرب العالمية الأولى، أتت لتؤكد كل توقعاته، ولتقول إن الهزيمة الألمانية الكبرى خلال تلك الحرب، إنما كانت ماثلة كالواقع الحتمي في صفحات ذلك الكتاب الذي يمكن اعتباره واحداً من أهم الكتب التي وضعها سياسيون عن عصرهم وعن أمتهم وعن أنفسهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق