بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 سبتمبر 2013

الكتابة بلا حرج عبده وازن

شيء من الحرج يعتري الكاتب في حقل الصحافة الثقافية العربية إزاء حال الاضطراب التي يتخبط فيها العالم العربي اليوم. العالم العربي وليس فقط سورية أو مصر أو العراق وليبيا واليمن ولبنان... ما تعانيه هذه البلدان يعانيه العالم العربي كله، مشرقاً ومغرباً وخليجاً. والمثقفون العرب يعيشون الأزمة نفسها وإن كان بعضهم بعيداً في الجغرافيا أو مغترباً.
يشعر من يعمل في الصحافة الثقافية بمقْدار من الإحراج عندما يجد نفسه يكتب عن قضايا وشؤون لا علاقة لها بما يحصل من حوله، من مآس رهيبة ومجازر، قضايا ليس هذا زمنها، وشؤون تفترض فسحة من الحياة والطمأنينة. كأنّ الكتابة عن لوحة جميلة أو عن عرض مسرحي باهر أو عن كتاب فريد وقطعة موسيقية وأغنية، إنما هي ضرب من الترف الثقافي في زمن القتل الجماعي والهجرة القسرية والاقتلاع والجوع والمرض والخوف... يشعر الكاتب كما القارئ «المتواطئ» وفق رولان بارت، بلا جدوى الكتابة والقراءة، فما يحدث أشد هولاً من الواقع والمخيّلة، بل أشد مأسوية من دراما الحياة والأدب. باطل الأباطيل، كل شيء باطل أمام مشهد أطفال يختنقون في هبوب غاز السارين، أو أناس يُذبحون ويُمزّقون إرباً، أمام صور أحياء تسقط بأحيائها وموتاها، أمام قرى تباد بأهلها ومعالمها.
ماذا في وسع الكاتب أن يكتب حيال ما يفوق الكتابة نفسها، ما يفوق الوصف والتعبير، ما يفوق التصوّر والتخيّل؟ أي لغة تقدر على احتواء عنف هذا العنف الذي يسود، بشاعة هذه البشاعة التي تشيع وسع المدن والقرى؟ هل يمكن كاتباً عربياً أن يكتب اليوم بحماسة عن جمال الطبيعة في لوحة انطباعية؟ هل يمكنه أن يكتب بحبور
عن الحنين في قصيدة رومنطيقية أو عن الغرابة في نص سوريالي؟ أم عن قصة حب عاصف في رواية شبه إباحية؟ أم عن صورة تجريدية بالأسود والأبيض؟.
يشعر الكاتب في الصحافة الثقافية أنّ ما يكتبه الآن على هامش «الحالة» العربية الراهنة أو بعيداً منها، غريب ومستهجن، يشعر كأنه يكتب رغماً عنه، وعن مشاعره ووجدانه. يكتب من غير حماسة، وإن كان ما يكتبه على قدْر من الفرادة والتميّز. يكتب ما يكتب في زمن ليس زمن ما يكتبه. الكتابة تملك زمنها، ولعلها لا تكون خارج هذا الزمن. وبعضهم يسمّي الزمن جوّاً ومناخاً. ومهما حاول الكاتب بخاصة في الصحافة، أن يبتعد عمّا يجري من أحداث في السياسة وعلى الأرض، يظل عاجزاً عن إنجاز فعل الابتعاد هذا. الهروب هنا مستحيل ولو كان بريئاً أو أوتوبيّاً. إن المأساة عندما تكون جماعية لا يمكن تلافيها والتحاشي عنها. يجد المرء نفسه في وسطها، جسداً أو روحاً، لا فرق. يرمي الأدب الكاتب في «المعركة» كما يعبّر سارتر، الفيلسوف الوجودي في كلامه عن الالتزام. والكاتب هذا، كما كل كاتب، لا بد أن يجد نفسه على متن «السفينة الشراعية الحربية» تتقاذفه أمواج البحر، وفق تعبير ألبير كامو. لا حياد هنا بتاتاً.
لعل هذا الشعور بالإحراج دفع كثرة من الكتّاب في الصحافة الثقافية إلى الإغراق في الكتابة السياسية. بعض منهم جعلوا زاويتهم الأسبوعية سياسية بامتياز، وبعض آخر انتقلوا إلى الكتابة السياسية في صفحات أخرى، على أن قلة راحت، مرغمة، تقارب الحدث الثقافي من وجهة سياسية. وكان لا بد للبعد السياسي أن يطغى على الكتابة الثقافية، ناهيك أصلاً بمن يُسمّون كتّاب الأفكار والقضايا، وهؤلاء انتهزوا المرحلة الشائكة ليملأوا الصحافة المكتوبة والإكترونية بما تفيض به قرائحهم، وبعضها مفيد حقاً.
ماذا يكتب أهل الصحافة الثقافية هذه الأيام؟ إنهم ملزمون مواصلة عملهم الثقافي مهما شعروا بالحرج إزاء المشهد المأسوي الكبير الذي يحاصرهم. إنهم مجبرون على الكتابة عن أمور يشعرون أن الوقت ليس مواتياً للكتابة عنها. لكنّ الكتابة هذه ليست بقسريّة البتة. إنها الكتابة التي تصرّ على الحياة وسط أنقاض المشهد العربي. الكتابة التي تبحث عن النور في غمرة هذا الظلام الكبير. الكتابة التي تصر على الأمل مهما اشتد اليأس وصعدت أمواج التشاؤم. وقد يكون هذا الإصرار هو من أشد أحوال التحدّي، التحدّي المزدوج في مواجهة الاغترابَين، الخارجي والداخلي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق