بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 مايو 2014

◘ حج اليهود رقي حضاري في تجربة تونس وفلسطين سوية -حمد مغربي

لا شيء أكثر أسى من أن يحمل العرب أثقالاً ليست لهم، ويربكوا حاضرهم ومستقبلهم بمزيد ومزيد من التخبّط. هل ينقص العرب أثقالاً وإرباكاً "ليتبرعوا" بأن يخنقوا أنفسهم ويزيدوا من مآسيهم، بل الأنكى ان يفعلوا ذلك تحت رايات ليست لهم أبداً!

أليس تخبّطاً ذلك النقاش المغلوط عن حج يهود إلى تونس، وهو أمر بات جزءاً من إرث
مكين للشعب التونسي في استيعاب المسألة الدينية ضمن آفاق حضارية منفتحة؟ ألم نتعلم شيئاً من تجربة الاندفاع الانفعالي لخدمة رايات غير عربية، في النقاشات المأساوية عن الـ"هولوكوست"؟ من المضحك المبكي أن ترتكب النازية الهتلرية في ألمانيا، وتحت راية التفوق العرقي العنصري للجنس الآري الألماني، مقتلة دموية مهينة للإنسانية كـ"الهولوكوست"، ثم يأتي عرب ليدافعوا عما فعلته عنصرية هتلر وتعصبّه الآري النازي!
ترتفع المأساة إلى قمّتها حين يدافع عرب عن مجزرة هتلر، فيما تستخدم مذابح الهولوكوست في الدعاية الإيديولوجيّة للصهيونية، بل تبرير الاحتلال الكولونيالي في فلسطين وطرد شعبها وذبح هويتها الوطنية والحضارية. (يحضر هنا وصف المفكر الأميركي اليهودي نورمان فنكلنشتاين للهذا الاستخدام المهين بأنه "تجارة الهولوكوست"، وفنكلنشتاين سليل عائلة من ضحايا هتلر).
يمارس بعض العرب هذا الدفاع عن الهولوكوست بحميّة عربية منفعلة، بل صادقة أحياناً بشكل مأساوي، من دون وعي بأنهم "يخدمون" المشروع الصهيوني مرتين، بل مرّات عدة.
لنبدأ من أول السطر. بكل تشديد، الصراع مع المشروع الصهيوني الاسرائيلي في فلسطين هو صراع وطني وقومي وحضاري، وهو ليس صراعاً مع الدين اليهودي بأي شكل من الأشكال. من أسوأ ملامح المشروع الصهيوني أنه يسخّر الدين اليهودي والمآسي الجمعيّة في ذاكرة اليهود (وهي أمور لا شأن للعرب بها)، كي يبرّر الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي. ولأن نازية هتلر انصّبت على اليهود كمجموعة دينية، وجدت الصهيونية في ذلك النموذج الأوضح والأقسى على الاضطهاد الذي يعانية اليهود، وأدرجته في خطاب إيديولوجي متطرّف يبرر الاستيلاء على فلسطين بما فعله هتلر في ألمانيا! (في هذا السياق، تصبح الصهيونية أيديولوجيا عرقية ذات ملمح "نازي" أيضاً، بمعنى أنها تبدو كصورة المرآة للنازية).
بالاختصار، هناك قدر هائل من التوظيف المستفظع للدين اليهودي في الخطاب الصهيوني، مع ملاحظة أن هذه المسألة متشعّبة تماماً. ويوصل ذلك إلى فكرة من المهم ملاحظتها دوماً: لا شيء يكشف زيف دعاوى الصهيونية أكثر من تصدي يهود لمقولاتها السياسية وممارساتها العنصرية ضد العرب. استطراداً، لا شيء يستفزّ الصهيونية أكثر من محاولة للفصل بين اليهودية كديانة سماوية وبين الأيديولوجيا الصهيونية كمشروع سياسي استيطاني يخدم مصالح لقوى ودول كبرى، خصوصاً الهيمنة على المنطقة العربية.
أمثلة صغيرة عن انزعاج عتاة الصهيونية ممن يتنبه ويعي الفارق بين المشروع الاستيطاني الصهيوني والديانة اليهودية. كان المفكر الراحل إدوارد سعيد مقلقاً للصهاينة، بل صبّوا نيران غضب لا تنهي عليه، لأسباب كثيرة منها صداقته مع الموسيقار الإسرائيلي دانييل بارنباوم، وهما أسّسا معاً مركز "ويست إيسترن دايفن" في مدينة "بيلاس" في إشبيلية، للتذكير بالتعايش العربي- اليهودي في الأندلس.
عندما كان مشروع التحرّر العربي في حال صعود بالوعي الحضاري، كانت صفوفه مملؤة بمكوّنات عربيّة شتى في الدين والعرق والإثنيّة. يبدو الأمر الآن كأنّه مشهد سوريالي، بعد أن صعد خطاب التطرف المُسخّر للدين عربيّاً، إلى حدّ مأساوي، بل إلى حدّ أنه صادر صورة العرب والمسلمين لصالح تطرّفه الإرهابي.
ولكن، في أوقات أكثر انفتاحاً، كان اليهودي المصري هنري كوريل من القادة المؤسسين لحركة "حدتو" التي قادت جزءً مهماً من نضالات الشعب المصري ضد الفاشية الهتلرية والاحتلال البريطاني. وفي أوقات أكثر وعيّاً للفارق بين الديانة اليهودية والمشروع الاستيطاني الاسرائيلي، كان المفكر المغربي إبراهيم الصرفاتي من قادة حركة التحرّر الفلسطينية، كما ضمّ اليسار اللبناني مناضلاً يهودياً مثل الكاتب سليم نصيب.
في إسرائيل حاضراً، يعيش الاستغلال الأيديولوجي الصهيوني أزمة في علاقته مع المتطرفين اليهود. إذ يرفض هؤلاء الخدمة في الجيش معتبرين أن نشاطهم الديني المتزمّت يكفي لخدمة المشروع الإسرائيلي! وبمعنى ما، يعيد هؤلاء المتطرفون المنطق الصهيوني إلى نفسه، كأنه حيّة وهمية تحاول التهام ذيلها. إذا كان الأساس في إسرائيل هو الديانة، يكون لحجّتهم سنداً قويّاً، وهو ما وضعهم في تصادم مع منطق دولة يحميها السلاح والعنف والحرب، إلى حدّ أن الوصف الرائج عنها هو أنها "جيش له دولة، وليس دولة لها جيش".
كلمة صغيرة، مع مرور الزمن على إنشاء الكيان الإسرائيلي، ظهرت شرائح إسرائيلية معارضة للنزوع الفاشي للصهيونية أيضاً. ويعطي معسكر السلام في إسرائيل، إضافة الى قوى ليبرالية ويسارية ومستنيرة، أمثلة عن إسرائيليين معارضين لفاشية الصهيونية.
لا داعي للقول أيضاً بأن هناك تراثاً عربياً، خصوصاً في دول المغرب العربي، للفصل بين اليهود كديانة سماوية وبين المشروع الاحتلالي في إسرائيل. ورد ذكر المناضل في صفوف المقاومة الفلسطينية المغربي إبراهام صرفاتي، لكن هناك أسم متألق هو دانيال بن سعيد، المفكر الفرنسي من أصل مغاربي. أقل ما يصف به بن سعيد إسرائيل أنها كيان عنصري.
ضمن تلك المعطيات، وهي القمة الظاهرة من جبل جليد عائم، يصبح من المؤسف أن تشكل مسألة حج اليهود إلى كنيس "الغربية" في جزيرة "جربة بتونس"، موضعاً لنقاش خلافي في تونس، بعد نجاح "ثورة الياسمين" فيها. الأرجح أن الاستمرار في التجربة المكينة للشعب التونسي في الانفتاح الحضاري المقاوم للمشروع الإسرائيلي، هو رقي حضاري يصعد بتونس وفلسطين، بل بشعوب العرب ومسارات الدين الإسلامي أيضاً. وللحديث بقيّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق