بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

العراق كشاهد على «التكفيريين» -ربيع بركات



في أواخر آب من العام 2005، استهدف مرقد الإمام موسى الكاظم في بغداد بقذائف هاون أوقعت سبعة قتلى وعشرات الجرحى. كان الهجوم الذي تبنته جماعة مرتبطة بتنظيم «القاعدة» مجرد جزء من نسق الأحداث التي تحصد عشرات الضحايا يومياً في عراق ما بعد الاحتلال. غير أن ما تلى الهجوم بساعتين كان طامة كبرى: شائعة بوجود انتحاري على جسر الأئمة الذي كان مكتظاً بآلاف العراقيين القادمين إلى بغداد لإحياء ذكرى وفاة إمامهم السابع، كانت كفيلة بخلق حال من الذعر والتدافع الذي أسقط حشوداً هائلة في نهر دجلة... وأودى بحياة نحو ألف زائر غرقاً أو دهساً.
طوي الملف، شأنه شأن الكثير من حوادث القتل والتهجير التي توالت تباعاً في العراق، والتي تعدد المسؤولون عنها، فيما هوية المتسبب بهذا الحادث تحديداً لم تعرف على وجه الدقة. لكن ما ظل عالقاً في الأذهان أن شائعة واحدة كانت كفيلة بالقضاء على نحو ألف إنسان في ظرف ساعتين أو أقل. وما ظل ثابتاً لا يقبل الشك أو الطعن أن نمطاً من التفكير أنتج مجزرة لمجرد قابليته للتحقق، إذ بمجرد سقوط مفردة «انتحاري» من فم أحدهم، سقط المئات حتى من دون أن يتحول التعبير إلى حقيقة.
لم تتوقف في العراق أعمال العنف التي وجدت في الأفكار المتطرفة تربة خصبة للنمو، فانفلت عقالها بظهور «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» الذي أحدث نقلة نوعية في طبيعة العنف، أهدافاً وممارسة. ومع هذا النمو، أخذت أعمال القتل الطائفية المتقابلة التي لم توفر أحداً، فاعلاً ومفعولاً به، تتسع نطاقاً وهمجية. غير أن العنف الذي أصّلته منطومة عقائدية ظل يحتفظ لنفسه بخصوصية ميزته عن سائر أشكال الاقتتال الذي اشترك فيه العرب السنة والشيعة كما الأكراد، إذ كان عنف الجماعات التي وصفت نفسها بـ«الجهادية» عنفاً عقائدياً مؤسساً على كراهية الآخر. وهذا «الآخر» أخذ شكل «الروافض»، أي «الشيعة» في بادئ الأمر، ثم تحول إلى «السنة» المشاركين في العملية السياسية، واختتم مساره الانتحاري باستهداف جماعات ذات هوية إسلامية وطنية أو قومية، كانت قد نشأت من نواة الجيش العراقي المنحل بهدف مقاومة قوات الاحتلال.
هكذا، أخذت تزداد دوائر صراع هذه الجماعات مع «الآخر». فبدأت باستهداف الكاظمية وكربلاء والكوفة وغيرها من المناطق ذات الغالبية «الشيعية» وانتهت في الأنبار والموصل وتكريت وسائر المناطق ذات الغالبية «السنية». وقد تغيرت، تبعاً لذلك، هوية المستهدف واتسعت مروحة الأهداف حتى شملت كل مغاير، فيما الجامع في هذه الاستهدفات كان التأصيل العقائدي للقتل وأساليبه: فالعمليات الانتحارية مباحة ضد المخالف، وسقوط المدنيين ضرر جانبي جائز شرعاً، فيما جز الرؤوس له فقه خاص تبيحه الحاجة إلى إرهاب «الأعداء».
بناء عليه، يغدو الحديث عن «التكفيريين» اليوم في بلاد الشام غير مقطوع عما سبق الحدث السوري من محطات. وهو ليس بدعة أو مجرد فزاعة للتخويف، بل ثمة امتداد زمني له بمثل ما له امتداد عقائدي. وغالباً ما تسجل ملاحظات على حديث من هذا النوع من قبيل أن عنف الأنظمة يسهم في اتساع هذه الظواهر. وهذا كلام صحيح لا يمكن لعاقل نقضه. لكن، في المقابل، ثمة استخفاف بحقيقة وجود هذه الظواهر بمعزل عن سلوك الأنطمة. وهي ليست طارئة كما يسوّق البعض، ولا هي ضعيفة التأثير في فضاء الفوضى المشرقية الراهنة كما يحب هذا البعض أن يتوهَّم.
ولعل العراق، لمن لا تقنعه أحداث سوريا المعقَّدة، شاهد حي على نمط تفكير هذه الجماعات ودليل على فعاليتها. إذ تفيد آخر الأرقام الصادرة عن بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي» مطلع شهر أيلول الحالي، بمقتل خمسة آلاف مدني وإصابة اثني عشر ألفا في البلاد منذ بداية العام 2013، وقد سقط غالبية هؤلاء، جراء استهداف أماكن تواجدهم، بسيارات مفخخة أو بعمليات انتحارية.
والعراق، بطبيعة الحال، باحة خلفية للحدث السوري وامتداد طبيعي للصراع القائم على أرض الشام، وفرعا «القاعدة» في سوريا ليسا بعيدين عنه. إذ إن «دولة العراق الإسلامية» تتبنى عمليات تفجير وإعدام في كلا البلدين، فيما «جبهة النصرة» تستقدم المقاتلين من بلاد الرافدين وتصدرهم إليه، والأخيرون يفجرون أنفسهم بين جموع البشر. بينما الاثنتان، على ما تظهره المعطيات المتوافرة بكثرة، لهما اليد الطولى في المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة السورية.
وعلى الرغم من مسؤولية السلطات العراقية المتعاقبة عن عدم تأمين المسار اللازم لإنجاز مصالحة وطنية بعد خطيئتها الأصلية المتمثلة بغياب عدالة انتقالية واعتماد سياسات «اجتثاث البعث» الإقصائية، إلا أن الحرب التي أعلنتها الجماعات المتطرفة على جزء من المجتمع (أو أكثر)، وما تزال، لا تشكل بأي حال من الأحوال رداً سياسياً بل عنفاً عقائدياً محضاً.
ويمكن القول، بعد ذلك، إن أي نقاش في تسمية هذه الجماعات (كذاك الذي شهدناه في الأشهر الأخيرة) نافل ولا قيمة حقيقية له. فسواء أطلق على منتسبيها اسم «تكفيريين» أو «إرهابيين» أو «متطرفين»، فإن أياً من ذلك لن يغير في تقييمها شيئاً (مع تسجيل تحفظ على تعبير «جهاديين» على اعتبار أنه ينطبق على طيف واسع من الجماعات التي نشأ بعضها لمقاومة المحتل ولم يشرّع القتل المفتوح).
كما يصح القول إن المعركة مع نمط العنف هذا تتجاوز الأشخاص القائمين به لتطال نهجاً عاماً، وإن التلطي خلف حجة مواجهة الأنظمة البوليسية (على صحتها) لتبرير التعامل مع هذه الجماعات أو الدفاع عنها ليس إلا إغفالاً لسلوكها واستغفالاً لضحاياه.
إن التحدي الذي تطرحه هذه القوى في المشرق اليوم يتمثل في تهديدها القدرة على تنظيم الاختلاف من دون التهديد بالمقصلة، وفي إظهار عوامل التقارب من دون الخشية من عواقب، كتلك التي نتجت عن تنظيم صلاة جامعة ضمت «سنة» و«شيعة» في مدينة بعقوبة العراقية قبل أيام، فاستهدفها تفجيران أوقعا جل من فيها بين قتيل وجريح.
والتحدي الذي تطرحه على صعيد الوعي العام لكل من «شيعة» المشرق و«سنته»، يتمثل في تعميم نموذج عثمان العبيدي، ذاك الشاب «السني» الذي أنقذ ستة من «الشيعة» الذين سقطوا عن جسر الأئمة قبل ثماني سنوات إثر شائعة «الانتحاري»، قبل أن يقضي نحبه غرقاً، شهيداً، أثناء محاولته إنقاذ سابع.
أما «التحدي» الذي يتصدى له البعض لتجميل جماعات العنف «التكفيرية» أو إغفال وجودها فهو تحدٍ بائس، لا تزيده بؤساً إلا أرقام الضحايا اليومية، من مشارب وانتماءات متعددة، في بلاد الشام ومحيطها، والعراق من هذا المحيط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق