بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

إصلاح الإمبراطورية الاقتصادية - يسار ناصر



نجحت الولايات المتحدة الأميركية في بناء امبراطوريتها الاقتصادية بالاتكال على النتيجة المحققة في الحرب العالمية الثانية، وتشكيل النظام المالي العالمي حول الدولار القوي بعد Bretton Woods.
راهناً، النمو الكبير لدول «البريكس» والضغوط الاقتصادية والسياسية التي تحاول ان تقوم بها، تهدف إلى تغيير حقيقي للنظام المالي العالمي الذي يضمن لها المشاركة الاقتصادية والمالية (والسياسية) كقطب اقتصادي قوي في هذا العالم.
من المؤكد ان السنوات القليلة الماضية (فترة الكساد المالي منذ 2008) كانت صعبة جداً على الاقتصاديات الغنية وعلى رأسها الولايات المتحدة، حيث ان كامل الدول الغربية، شهد تدهوراً اقتصادياً حاداً ونقصاًً هائلاً في السيولة المالية. في المقابل، وبالرغم من تأثير هذه الازمة على دول «البريكس» فإنها حافظت على استمرارية النمو (ولو متواضعاً). هذا الإخلال في التوازن المالي دفع المؤسسات المالية الكبرى (البنك الدولي وصندوق النقد) الى ايجاد مصادر تمويل للبلاد المتعثرة، عبر قروض من دول تعتبر نفسها مهمشة في النظام المالي العالمي (كالصين وروسيا).
كانت محاولة اولى لتصحيح الخلل البنيوي في النظام المالي العالمي العام 2010، حيث تم اقتراح توزيع جزء من حصص التصويت التابعة للدول الغنية في صندوق النقد، الى دول «البريكس»، بشكل اساسي، ولكن هذا التوزيع لم يتم حتى الساعة، لأنه بحاجة الى موافقة اكثرية الدول، وما زالت الولايات المتحدة، صاحبة أعلى تمثيل، غير موافقة على اي تعديل، وهو ما تطرق إليه في قمة دول العشرين.
المشكلة ان تعديلاً كهذا (اذا حصل) يبقى غير كاف لدى الدول النامية حيث انه يطيل عمر المنظومة المالية العالمية الحالية ولا يعطي هذه الدول تمثيلاً صحيحاً لقوة اقتصاداتها المالية والمستقبلية. لذلك رأينا أن دول «البريكس» ما زالت تحاول ان تفرض تعديلاً جوهرياً اكثر يسمح لها بالتأثير الحقيقي على الاقتصاد والسياسة في العالم.
إزاء هذه التحولات، أمام النظام المالي، ثلاثة احتمالات أو خيارات:
الخيار الأول: بقاء النظام كما هو جوهرياً مع تعديلات شكلية. هذا الخيار لا يحل المشاكل الجذرية التي يواجهها الاقتصاد العالمي. جلّ ما يفعله هو إمرار فترة من الوقت قبل الشروع الى التعديل الحقيقي. وسنرى المزيد من التجاذبات في السياسة المالية العالمية والمزيد من حروب العملات، وأيضاً المزيد من عدم الاطمئنان الى امكانية التكامل الاقتصادي الفعلي بين الاقطاب في العالم، هذا الخيار سيؤدي فعلياً الى ازدياد الانقسام.
الخيار الثاني: انكسار النظام المالي كما نعرفه حالياً، بطريقة متدرجة. يمكن لدول «البريكس» أن تتبع قراراتها وتنشئ مصرفاً مالياً تابعاً لها، وتبني عملة بديلة للدولار، للتعاون التجاري فيما بينها. ويمكن ان تصبح هذه العملة البديلة عملة عالمية، تستعملها العديد من الدول كاليورو لدى الدول الاوروبية، ولكنها لن تستطيع في المدى المنظور ان تلغي الدولار الاميركي، العملة الأقوى تجارياً اليوم، أو أن تستبدله كعملة احتياط في المصارف المركزية الكبرى. هذا الخيار سيصطدم بالواقع السياسي العالمي ويجعله عرضة للمساومات والصفقات، وفي احسن الاحوال سيؤكد المؤكد: ان دول «البريكس» قوية اقتصادياً وباستطاعتها إنشاء نظام مالي رديف، ولكن هذا النظام لن يكون الوحيد او القادر في المدى المنظور ان يصبح النظام السائد.
الخيار الثالث: إصلاح حقيقي للمنظومة المالية العالمية، حيث ان كل دولة تصبح قادرة على ان تتمثل بقدرتها الحقيقية في الاقتصاد العالمي الكلي. هذا الإصلاح بحاجة الى قائد فعلي لجعله خياراً قائماً وبعيداً عن كل التجاذبات، ولن يكون هناك افضل من الولايات المتحدة لأخذ مثل هذا الخيار العقلاني لمصلحتها أولاً، ومصلحة جميع الدول لاحقاً. هذا الخيار يتطلب إنشاء عملة احتياط عالمية جديدة تسمح للعملات غير المؤثرة حالياً، ان تكون ممثلة واقعية لاقتصاديات بلدانها. هذه العملة الجديدة على الأرجح ستكون عملة مبنية على سلة عملات عالمية بنسب متفق عليها ويمكن أن تكون هذه العملة هي الـ (SDR (Special Drawing Rights) التي اعتمدت كعملة «شبح» في صندوق النقد الدولي (اي موجودة دفترياً في الوثائق وليست متداولة) بشرط اصلاح هيكليتها وجعلها قابلة للتداول كعملة حقيقية لنظام عالمي حديث مع كل ما يتطلبه هذا النظام من اصلاحات تطال جوهره كأنشاء مصرف مركزي عالمي لصك ومراقبة التداول في العملة العالمية، الى مؤسسات اخرى تُعنى بالسيولة النقدية العالمية، الى ما هنالك.
ولكن أي هذه الخيارات هو اقرب الى التحقيق؟ في الوقت الراهن إن الولايات المتحدة ما زالت القطب السياسي الأقوى وهو ما يجعل الخيار الاول اكثر واقعية ولكنه سيجرنا حتماً الى الخيار الثاني كمرحلة انتقالية، حيث ان بعض الدول ستشكل قوى مالية اقليمية ضاغطة للحصول على التغيير النهائي (اي الخيار الثالث). هذا التغيير سيحتاج وقتاً، فليس من السهل التخلي كلياً عن الدولار كعملة احتياط قوية (حتى إنشاء اليورو كعملة اوروبية موحدة لم يغير هذا الواقع). ولكن على الدول الراغبة بتحديث النظام المالي العالمي ان تستمر بسياسات اقتصادية صحيحة وسليمة لتخولها الحصول على هذا.
أميركا هي القاطرة الحقيقية للاقتصاد العالمي، لذلك، فإن من واجب أميركا استشراف المستقبل ومساعدة الجميع على النمو، وفي هذه الحالة يظل الدولار كركيزة أساسية لأية سلة عملات (أو اختيار لعملة عالمية جديدة) ما يبقيها في المركز الأساسي والقادر على التأثير الفعلي في العالم الاقتصادي الذي يتشكل.
من المستحيل إبقاء القديم على قدمه، فهل تقوم الإمبراطورية بالإصلاح الضروري والناجح، أو تقع في فخ إعادة التاريخ نفسه?

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق