بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 11 سبتمبر 2013

من اليسار الإسلامي إلى الحركة الخضراء -.خالد شوكات

لم يقف الصراع من داخل الإسلام, منذ الحقبة التأسيسية إلى الآن, عند حدود الموقف من العصر أو العلاقة بالآخر أو الأكثر جدارة بالخلافة, بل كانت أشرس المعارك هي تلك التي خيضت حول طبيعة النظام الاجتماعي و الاقتصادي الأكثر ترجمة للنصوص الأصلية و الكلمة الإلهية, فقد ظهر في حضرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) من صحابته من مات و في بيته ما يكسر من الذهب بالفؤوس, بينما حرص صحابة آخرون على ملاقاة ربهم وليس في ديارهم درهم واحد أو دينار. 
ووفقا لرواد في تمحيص التراث الإسلامي, ومن أهمهم الراحل محمد عابد الجابري (رحمه الله), فإن من أسباب اعتراض غالبية كبار الصحابة على ولاية علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وخلافته الرسول (صلى الله عليه وسلم) مباشرة,  أن عليا كان يشكل خطرا حقيقيا على أصحاب المصالح المالية و التجارية الكبرى بالنظر إلى أفكاره الاجتماعية والاقتصادية المنحازة للفقراء وآرائه التقدمية عموما, سواء في تأويل القرآن أو تقدير الواجب استمراره من سنة نبي الإسلام. 
وبالمقدور القول ان "اليمين" في الإسلام قد حسم المعركة مبكرا, إذ جرى الدين في غالبية مراحل التاريخ الإسلامي في ركاب أصحاب المصالح, الذين كانوا ¯ ولا يزالون- أقدر على تمويل المؤسسات الدينية, سواء من خلال نظام الوقف والحبس, أو من خلال أنظمة أخرى جعلت آليات الفتوى والتفسير والتأويل عادة ما تصب في خانة أهل السلطة وذوي البأس والقوة ممن لهم القدرة على تقديم المكرمات للفقهاء والعلماء, إذ لم يعدم سلطان وجود فقيه أو عالم يلوي له عنق النصوص و يضفي على حكمه الشرعية. 
ولا تبدو جماعة الإخوان المسلمين إلا بمثابة نسخة معاصرة لهذا اليمين الإسلامي المتجدد عبر القرون, ولهذا فقد تبنت هذه الجماعة وسائر الفروع المنبثقة عنها في الغالب رؤية "رأسمالية" في الاقتصاد, ولم تخل تنظيماتها من "رأسماليين" طموحين, بل جشعين, و هو ما ثبت في تجارب »الإخوان« سواء في المعارضة أو الحكم, على غرار ما سجل في مصر وتونس مثلا, حيث أظهرت القوانين و التشريعات والسياسات التي سنتها أو تبنتها حكوماتهم أنها أكثر "يمينية" و"غربي
ة" اقتصاديا واجتماعيا من الأنظمة البائدة.
وفي المقابل, فإن التاريخ الإسلامي قد حفل منذ الفترة التأسيسية أيضا, بحلقات متجددة من "اليسار الإسلامي" منذ الصحابة من أمثال علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وأبوذر الغفاري الذين قاتلوا "اليمين الإسلامي" على "التنزيل" ثم على "التأويل", مرورا بتجارب "الفاطميين" و"القرامطة" الذين حاولوا إقامة أنظمة اقتصادية و اجتماعية أكثر عدالة, و انتهاء بالجهود التنظيرية التي قدمها مفكرون إسلاميون معاصرون ضمن مشاريع فكرية و مراجعات فقهية تطلعت إلى إسلام منحاز للثورة والإنسان والعصر والعدالة, من بينها أطروحات المرحوم مصطفى السباعي عن "اشتراكية الإسلام" و الدكتور حسن حنفي عن "يسارية الإسلام" والدكتور احميدة النيفر عن "تقدمية الإسلام". 
وتشكل إيران حالة خاصة في محيطها فيما يتصل بعلاقة اليمين باليسار في الإسلام, التي بلغت أوج تعقدها في تجربة "الجمهورية الإسلامية" المعاصرة, فقد انقسمت النخب الإسلامية الحاكمة منذ نجاح الثورة التي قادها الإمام الخميني أواخر سبعينات القرن العشرين إلى "يمينية" و"يسارية", قبل أن تأخذ طابعا أكثر عصرية تجلى في ما يعرف اليوم بصراع "المحافظين" والإصلاحيين", وهي مقولات أكثر شمولا تعبيرا عن تجاوز الخلاف حدود الاقتصادي والاجتماعي إلى المعرفي والسياسي و الدولي. 
ومن أبرز مفكري الإسلام اليساري في المجال الشيعي الإيراني الراحل علي شريعتي الذي اغتالته المخابرات الشاهنشاهية في لندن سنة 1977 قبيل نجاح الثورة بقليل, و قد عرف هذا المفكر الإسلامي الكبير بدفاعه المستميت عن "الإسلام العلوي" في مقابل "الإسلام الصفوي", وإيمانه القوي بأن "الله" و"الناس" في حلف واحد في مقابل "الشيطان" و"المستبدين", واجتهاده البناء في استقراء التاريخ البشري على نحو يبرز هذه المعركة الدائمة بين "المستضعفين في الأرض",أي الفقراء و المهمشين, والجبارين. 
ومنح الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي نسخة أكثر "تقدمية" و"عصرية" للأطروحة اليسارية الإسلامية, على نحو مزج فيه بين نضال المسلمين من أجل العدالة الاجتماعية و الاقتصادية و النضال من أجل المساواة بين الجنسين وعلاقات دولية أكثر حوارا وانفتاحا ومناخ ثقافي وسياسي يتسم بأكبر قدر ممكن من احترام الحريات وحقوق الإنسان, وهو تطوير يلمس له شبه في ما طرأ على أطروحات اليسار العالمي عموما بعد انهيار جدار برلين, إذ اقترنت حركة النضال من أجل العدالة الاجتماعية مع حركات الدفاع عن البيئة والأقليات وحقوق الإنسان. 
وبالعودة إلى أصل القضية, فإن قراءة الإسلام في سياق التاريخ البشري باعتباره قد مثل دفعة قوية للتيار التقدمي على أكثر من صعيد كمكانة المرأة و تحرير العبيد و أنسنة الحروب..الى غير ذلك, سيجعل اللقاء بين النظرة اليسارية و الرؤية الخضراء مسألة جد طبيعية, مم¯ا سيفسر التحول التدريجي الذي شهدته وستشهده أكثر حركة اليسار الإسلامي من شكلها الكلاسيكي الذي عرفته في القرن العشرين, إلى شكل أكثر حداثة وشمولا وفاعلية وإنسانية وعالمية, يجد تعبيرا مناسبا له في ما سمي ب¯"الحركة الخضراء". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق