بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 21 سبتمبر 2013

لتكنولوجيا تدمر الطبقة الوسطى -ديفد أوتور وديفد دورن


على مدى السنوات الأربع التي أعقبت النهاية الرسمية للركود الاقتصادي أخذت إنتاجية العمال الأميركيين (أو قل اولئك المحظوظون منهم الذين بقوا محتفظين بوظائفهم) تتصاعد بوتائر مذهلة، غير أن الوظائف في الولايات المتحدة لا تزال تقل إلى الآن بمعدل مليوني وظيفة عما كانت عليه قبل الانكماش، كما بقيت معدلات البطالة متوقفة عند مستويات لم نشهدها منذ مطلع التسعينيات، ولا تزال نسبة البالغين الذين يعملون أدنى أربعة بالمئة عن أقصى ذروة بلغتها في العام 2000. هذا القحط في فرص العمل جعل الخبراء والمحلّلين يطرحون التساؤلات 
بشأن ما إذا كنا قد وقعنا ضحايا لمرض عضال ذي علاقة بالوظائف. من هذه النقطة لا تبقى سوى خطوة واحدة بيننا وبين التساؤل عما إذا كان اسم هذا المرض العضال هو: الإنتاجية. فهل ترانا قد أسرفنا في إدخال المكننة والحواسيب على أنفسنا إلى أن انتهت بنا إلى التخلّف عن الزمن والسير على طريق الزوال؟هل ترانا مهددون بخسارة "السباق مع الآلة"، مثلما يجادل الباحثان من معهد ماساشوسس للتكنولوجيا "أريك براينجولفسون" و"أندرو مكافي" في أحدث كتاب لهما؟ 
هل سنصبح عبيداً لسادتنا الروبوتات، كما حذرنا الصحافي "كيفن درام" في مقالته التي نشرت على صفحات مجلة "مذر جونز"؟ وهل تتوعدنا "الآلات الذكيّة" بشقاء طويل الأمد كما تنبأ لنا الاقتصاديان "جيفري ساكس" و"لورنس كوتليكوف" في وقت سابق من هذا العام؟ هل وصلنا إلى ما أطلق عليه "نوح سمث" تسمية "نهاية اليد العاملة" حين كتب في مجلة "أتلانتك" وهو يندب سوء المآل؟          
بالطبع أن مشاعر القلق، أو حتى الهستيريا، المرتبطة بالمساوئ التي أوقعتها التغيّرات التكنولوجية على فرص العمل والوظائف لها تاريخ طويل يستحق التأمل. ففي مطلع القرن التاسع عشر قامت جماعة من الحرفيين العاملين في صناعة النسيج أطلقت على نفسها تسمية "اللاضية" (اللاضية هي حركة أجتماعية ثورية نشأت في أنكلترا مع بدايات الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر– المترجم) بثورة لتحطيم المكائن . وقد جعلهم هذا الاندفاع الطائش يحتلون منزلة في القاموس قلما اقترنت بصفات محمودة، إلا ان أسباب قلقهم كانت مشروعة.
تاريخياً بقي الاقتصاديون يرفضون ما نطلق عليه اليوم وصف أكذوبة "محدودية الوظائف"، وهو الافتراض بأن ارتفاع إنتاجية العامل لابد أن ينجم عنه بالمقابل انحسار في مجالات التوظيف لأن مقدار العمل المتوفر كمّ ثابت ومحدود لا يتغير. إلا أن هذه الفكرة ثبت بطلانها بالتجربة رغم ما يبدو من بديهيتها المغرية وقربها من القبول منطقياً. ففي العام 1900 مثلاً كان 41 بالمئة من قوة العمل في الولايات المتحدة يشتغل بالزراعة، ولكن مع حلول العام 2000 كانت هذه النسبة قد تدنت إلى 2 بالمئة بعد أن أحدثت الثورة الخضراء نقلة جبّارة  في إنتاج المحاصيل الزراعية.  بيد أن النسبة بين الوظائف وتعداد السكان بشكل عام ارتفعت خلال القرن العشرين حين انتقلت المرأة من البيت إلى سوق العمل، كما مرت مستويات البطالة بتذبذبات دوريّة من دون وقوع زيادات دائمة. 
التغيّرات التكنولوجية التي تخفض الحاجة إلى اليد العاملة لابد أن يعقبها الاستغناء عن بعض العمال في مجالات معيّنة (لأن الارتقاء بالانتاجية إنما يتحقق عن هذا الطريق) ولكن هذه التغيرات لا تلبث على المدى الطويل أن تعود إلى خلق منتجات وخدمات جديدة ترتفع بمستوى الدخل القومي، وعندئذ يتزايد الطلب الإجمالي على اليد العاملة. ففي العام 1900 لم يكن أحد يتصوّر أن مجالات الرعاية الصحية والموارد المالية وتكنولوجيا المعلومات والأجهزة الألكترونية الاستهلاكية والسياحة والترفيه والملاهي سوف تتفوق بعد قرن من الزمن على الزراعة من حيث الحاجة إلى الأيدي العاملة. وتفسير ذلك أن المجتمعات كلما ازدادت رخاء مال مواطنوها إلى العمل لساعات أقل والتمتع بمزيد من الاسترخاء والعطلات والتقاعد في سن مبكرة، وهذا بحد ذاته يعدّ تقدّماً أيضاً.
ولكن، إذا كان التقدّم التكنولوجي لن يشكّل تهديداً لفرص العمل كمياً، فهل معنى هذا أن على العاملين أن لا يقلقهم التوسع في استخدام "المكائن الذكيّة"؟ في واقع الأمر أن الجواب هو: كلا .. وهنا قد تكون للاضية حجة وعذر. فرغم أن كثيرا من البريطانيين أفادوا في القرن التاسع عشر من ظهور المنسج الأوتوماتيكي الجديد الذي تفوق على المنسج القديم، وأن العمال غير المهرة قد أعيد استئجارهم كمشغلين لهذا المنسج بحيث أصبحت لدى الطبقة الوسطى الآخذة بالاتساع القدرة المالية على شراء المنسوجات المنتجة بأسلوب الإنتاج الواسع، فإن من المستبعد أن يكون عمّال النسيج المهرة قد أفادوا جميعاً من الوضع الجديد بشكل عام.
وعندما نعود إلى زمننا الحاضر نجد أن الانخفاض الهائل في تكاليف أجهزة الحاسوب منذ أعوام السبعينيات قد خلق حوافز هائلة لدى جهات التوظيف للاستعاضة عن اليد العاملة المرتفعة الكلفة بالحواسيب التي تزداد رخصاً وتتعاظم قدرة. هذه التطوّرات السريعة التي نصادفها كل يوم عند دخولنا المطارات أو طلبنا الكتب عبر الانترنت أو دفعنا الفواتير على مواقع مصارفنا على الشبكة أو رجوعنا إلى هواتفنا الذكية طلباً للارشاد أثناء قيادة سياراتنا، أيقظت المخاوف بأن الآلات سوف تنتزع من العاملين مواقعهم ووظائفهم. فهل ستكون هذه المرة مختلفة عن سابقتها؟ 
مناقشة هذا الموضوع يجب أن تبدأ من ملاحظة أن الحواسيب، رغم سعة انتشارها، لا تستطيع القيام بكل شيء. فقدرة الحاسبة على أداء المهام بسرعة وبتكاليف بسيطة مرهونة بقدرة المبرمج البشري على كتابة المسارات والقواعد التي توجه الآلة لاتخاذ الخطوات الصحيحة إزاء كل حالة تواجهها. أجهزة الحاسب لا يتفوق عليها أحد في مجال إنجاز المهام "الروتينية": مثل تنظيم المعلومات وخزنها واسترجاعها والتعامل معها بشتى الصور، أو تنفيذ الحركات الآلية المحدّدة بدقّة في العمليات الإنتاجية. وهذه المهام تشيع أكثر ما تشيع في الوظائف التي توكل إلى أصحاب المهارات المتوسطة، مثل مسك الدفاتر وضبط الحسابات والعمل المكتبي وعمليات الإنتاج المتكررة ووظائف مراقبة النوعية.
لذا كان من المنطقي أن يؤدي شيوع الحاسبات إلى خفض الطلب على هذا النوع من الأعمال، بيد أنه من جهة أخرى رفع الطلب بشدّة على المشتغلين الذين يؤدون أعمالاً "غير روتينية" متممة للنشاطات المؤتمتة، وهذه المهام تتركز في الطرفين المتقابلين من سلّم المهارة المهنية.
في الطرف الأول تقع المهام التي يمكن تسميتها "المهام التجريدية" وهي تلك التي تتطلّب وضع حلول لمعضلات معينة أو حدساً بديهياً أو قدرة على الإقناع والإبداع. هذه المهام تكون من سمات الوظائف الاحترافية والإدارية والفنيّة والإبداعية مثل القانون والطب والعلم والهندسة والإعلان والتصميم. والمشتغلون بهذا النوع من الوظائف يمتلكون مستويات تعليم عالية وقدرات على التحليل، وهم ينتفعون من الحاسبات في تسهيل نقل المعلومات وتنظيمها ومعالجتها. 
أما في الطرف المقابل فتقع المهام التي تسمى "المهام اليدوية" وهي تلك التي تتطلب قدرة على التكيف والتجاوب الفوري مع المواقف والتمييز البصري واللغوي والتبادل البشري المباشر. فتحضير وجبات الطعام مثلاً أو قيادة الشاحنات وسط زحام المرور في المدينة أو تنظيف الغرف في الفنادق كلها مهام تفرض على الحواسيب تحديات معقّدة تصيبها بالتشوّش والإضطراب في حين أنها بالنسبة للعمال البشريين مهام عادية ومباشرة لا تتطلب أكثر من القدرات الفطرية الأساسية مثل المهارة والمتابعة البصرية وتمييز اللغة، إلى جانب قليل من التدريب. هؤلاء العمال لا يمكن استبدالهم بالروبوتات، إلا أن أجورهم تكون منخفضة عادة لأن نوع مهاراتهم ليس نادراً.
التحوّل إلى الحاسبات إذن أدى إلى استقطاب في فرص العمل بحيث تركّز نموّ الوظائف في كلا الطرفين، الأعلى الأوطأ، في حين انحسر في الوظائف الواقعة في الوسط. لذا قد يلاحظ أن معدلات التوظيف الإجمالية لم تتأثر في الولايات والمدن التي شهدت مثل هذا الاستقطاب السريع. ففي الوقت الذي تراجعت فيه فرص العمل بالوظائف الروتينية، كانت مستويات التوظيف في المهن الإدارية والاحترافية والفنية العالية الأجر تتصاعد وكذلك في المهن الواطئة الأجر والخدمات التي تتطلب تعاطياً بشرياً مباشراً. 
يدل هذا على أن التوسع في استخدام الحاسبات لم يؤدِّ إلى حدوث انخفاض كمّي في الوظائف، بل بالأحرى أدى إلى تردٍّ في نوعيتها بالنسبة لشريحة كبيرة من العمال. فقد نشط الطلب على العمّال الحائزين على مستويات تعليم عالية واولئك الذين يبرعون في المهام التجريدية، ولكنه انخفض على الوظائف التي في الوسط، حيث تقع المهن التي تتطلّب مهارات روتينية. فالعمال الذين لا يحملون شهادات جامعية أخذوا بالتركز في الوظائف التي تتطلب الجهد اليدوي، مثل خدمات الغذاء والتنظيف والأمن وهي وظائف تتوفر بكثرة ولكنها منخفضة الأجر ولا تؤمن أكثر من ضمانات قلقة وآفاق الترقّي المستقبلي فيها ضعيفة. هذا التشعّب في فرص العمل ساهم في توسيع شقّة عدم المساواة في الدخل إلى حدود تاريخية.
كيف نستطيع مساعدة العاملين على ركوب موجة التغير التكنولوجي بدلاً من الغرق فيها؟ إحدى النصائح الشائعة هي أن يزيد المواطنون استثمارهم في تعليم أنفسهم. فتحت حافز الطلب المتصاعد على العمال القادرين على تأدية المهام التجريدية يتصاعد المردود المادي المتأتي من الشهادات الجامعية والتخصصية تصاعداً شديداً، لذا فإن الاستثمار في التعليم العالي لم يكن يوماً بأفضل شأن منه عما هو اليوم بالرغم من تكاليفه الباهظة. بيد أن هذا لا يزال أبعد من أن يكون الحل الكامل لمشاكل سوق العمل، لأن خريجي المدارس الثانوية الأميركية ليسوا على استعداد جميعاً، سواء من الناحية الأكاديمية او المزاجية، لأخذ أربع سنين إضافية من أجل بلوغ الشهادة الجامعية. ففي أميركا لا يلتحق بالدراسة الجامعية التي تقتضي أربع سنوات سوى 40 بالمئة من خريجي الدراسة الثانوية، وأكثر من 30 بالمئة ممن يلتحقون بهذه الدراسة لا يكملون ويحصلون على شهاداتهم إلا بعد ثماني سنوات أو نحو ذلك. 
ولكن النبأ الطيب وسط هذا كله هو أن التعليم المتوسط والوظائف المتوسطة الأجر ليس مقدراً لها أن تزول كلياً. فرغم أن أكثر الوظائف التي تتطلب مستويات متوسطة من المهارة معرضة للتأثر بالأتمتة هناك قلة منها تتطلب مزيجاً من المهام التي تحتاج إلى المرونة البشرية. كمثال بارز على هذا نسوق الوظائف الطبية المساعدة، مثل فنيي الأشعة والممرضين الفنيين والممرضات المدربات على براعة استخدام الإبرة في الوريد لسحب الدم أو حقن العقاقير وما شابه ذلك. فهذه الفئة من الوظائف، الحسنة الأجر نسبياً والمتوسطة المهارة، يتنامى الطلب عليها بسرعة هي الأخرى. هذا النوع من المهن المساعدة قد لا يتطلب شهادة جامعية تنفق فيها أربع سنوات، ولكنها مع هذا تحتاج إلى تدريب مهني لاحق بعد التخرج من مرحلة الدراسة الثانوية.
هذا النوع من الوظائف المتوسطة المهارة سوف يبقى ويدوم، بل أنه آيل للتنامي مستقبلاً لأنه يتضمن مهام لا يمكن فصلها عن بعضها من دون تعريض نوعية العمل للتردي الشديد. لنتخيل مثلاً صورة الإحباط حين نطلب من شركة برمجيات أن تقدّم لنا مساعدة تقنيّة فإذا بنا نكتشف أن كل ما يعرفه الفني هو الأجوبة الثابتة التي تظهر أمامه على شاشة حاسبته، بكلمة أخرى أن الفني ليس أكثر من مردّد يعيد قراءة النص الذي يراه أمامه لا شخصاً بمقدوره حل معضلة. هذا النوع من العمل لا يكون منتجاً لأنه يعجز عن التحكم بالجوانب التكاملية بين العمل الفني والمهارات الشخصية. نصوغ الأمر ببساطة فنقول أن نوعية الخدمة في أية مهنة تكون قابلة للتحسن حين يكون العامل قادراً على الدمج بين المهام الروتينية (الجانب الفني) والمهام غير الروتينية (المرونة).
تبعاً لهذا المنطق نتوقع أن الوظائف متوسطة المهارة التي ستتمكن من البقاء على قيد الحياة هي تلك التي تستطيع الجمع بين المهام الفنية الروتينية والمهام اليدوية التجريدية، حيث يمتلك العاملون البشريون على الآلة ميزة نسبية، مثل التعامل بين الأشخاص والقدرة على التكيف وحل المعضلات. إلى جانب المهن الطبية المساعدة تضم هذه الطائفة عدداً من الوظائف التي يمكن أن يفيد منها من يمتلكون المهارة الحرفية ومهنية التصليح: مثل سبّاكي الأنابيب والبنّائين والكهربائيين ومصلحي أجهزة التسخين والتهوية ومركبي أجهزة التكييف وميكانيكي السيارات وممثلي خدمة المستهلك، وحتى العاملين في الوظائف المكتبية الذين تتعدى واجباتهم مجرّد الطباعة وحفظ الأضابير. بل في الواقع أنه في الوقت الذي تنزع فيه عن بعض مهن المهارات المتوسطة السابقة مهامها الفنية الروتينية هناك وظائف أخرى، كانت تحسب في السابق ضمن وظائف الطرف الأعلى من السلم، باتت أكثر تقبلا للعاملين الذين يمتلكون قدراً أقل من المعرفة الفنية المتخصصة، مثل الممرضة الممارسة التي يسمح لها بتطوير قدرتها إلى حد تشخيص المرض وصرف الأدوية بالنيابة عن الطبيب. وقد أطلق "لورنس كاتز" المتخصص في اقتصاد العمل من جامعة هارفرد تسمية "الحرفيون الجدد" على اولئك الذين يستطيعون الدمج بين المهارات المؤسساتية المكتسبة من التعليم الثانوي، والمهارات المهنية النوعية.
صورة المستقبل بالنسبة للعاملين الذين لم يكملوا دراستهم الجامعية غير واضحة، ولكنها ليست خالية تماماً من الأمل. إذ سوف تكون هناك فرص عمل في نطاق الوظائف متوسطة المهارة ولكن ليس في مجالات العمل التقليدية في ميدان الإنتاج أو الأعمال المكتبية التي كانت متاحة في الماضي. بدلاً من هذا نتوقع أن نرى تنامياً في فرص التوظيف ضمن صفوف "الحرفيين الجدد" مثل: التمريض التطبيقي المرخّص والمساعدين الطبيين والمعلمين والمدرّبين والمرشدين على مختلف مستويات التعليم ومصممي المطابخ والمشرفين على البناء والممارسين المهرة في العمل التجاري 
على مختلف أصنافهم وخبراء التصليح وفنيي 
الإسناد ومختلف الأشخاص الذين يقدّمون التدريب الشخصي والمساعدة مثل المعالجين الطبيعيين والمدربين الشخصيين ومدرّبي الفرق والمرشدين. هؤلاء العاملين عليهم أن يكونوا قادرين على 
الجمع بخبرة وبراعة بين المهارات الفنية والتعاطي ما بين شخص وشخص والمرونة والقدرة على التكيف من أجل تقديم خدمات ينفرد بها بني البشر وحدهم دون الآلات. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق