بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 سبتمبر 2013

دهاء الشام -عبد الزهرة زكي



على مدى التاريخ العربي عُرفت الشام بأنها بلد دهاء سياسي في محيطنا العربي الذي كثيراً ما ألِف الانفعالات والتسرع في التصرف والمباشرة في القول.


العربي الخارج من جزيرة العرب هو ابن الصحراء، وهو صنو وضوحها وتلقائيتها وواحدية تلوّنها وتضاريسها ومباشرتها في انفعالاتها وتقلباتها، لكن العربي في الشام، وقد اختزن من العربية دهاء بنائها وفقهها وانفتاح بلاغتها، تشبع من الصحراء صبر جملها ورحابة خيال شعرها الذي عوضت به محدودية طبيعتها ليمزج هذا بانفتاح الموانئ على العالم وثقافاته وبتطلع ابن المدن والأسواق والتجارة وبأريحيته التي تخفي تحسبه الدائم للغريب.
وفي تاريخ العرب المعاصر كانت الشام هي الأكثر سبقاً في خلق قاعدة فكرية سياسية للخروج على مركزية سلطان الدولة العثمانية والتطلع إلى مركّب مزجت فيه الحس العربي بالوثوب الحضاري المتطلع نحو الغرب. دائماً الشام تضع في أعماقها الصحراء وهي ترنو نحو البحر.
هذه الطبيعة الثنائية هي ما صنعت الروح المتسامحة والطامحة. لم تزل آثار الرومان على ثرى الشام فيما هي تحتفظ بجماليات المعمار العربي الإسلامي. هذه الثنائية وهذا التجاور والتعايش هما ما يحفظهما دهاء السياسة، وهو دهاء تتطلبه وتمليه سنن القبول بالاختلاف والتنوع.
شاركت الشامُ التحالفَ الدولي في 1991 في حرب الخليج الثانية لكنها حركت شعبها للتظاهر ضد الحرب. لم تخسر سورية التحالف الذي لم تقاتل فيه لكنها نجحت في حفظ توازن مطلوب بين قلب الشعب وعقل السلطة.
فتحت أبوابها سنوات لمعارضي صدام حسين ثم عادت لتفتح أبوابها لمناصريه حين أطيح به. دعمت وسهلت العمل المسلح في العراق ما بعد 2003 فيما كانت تستقبل وفود حكومة العراق فلا يسمعون منها إلا عسل الكلام. لم تقطع شعرة معاوية التفاوضية مع الإسرائيليين بينما بقيت في منظار قوميي العرب وإسلامييهم (قلعة الصمود والتصدي).
وحتى حينما دخلت في مناخ (الربيع العربي) وصارت في مواجهة اصطفاف لا محيد عنه: قطر والسعودية وتركيا التي ركبت جميعها إرادة الشعب السوري في الحرية والديمقراطية والانتهاء من حقبة دكتاتورية، وجرى تخليق بؤر للعمل المسلح، بقيت سورية تضع العالم الغربي الراغب في التغيير في حيرة الموقف.
تزمت خصوم سورية المتشبث بعنف سوري داخلي ذي طابع ديني ومذهبي هو تزمت أهوج لا يفضي في المآل الأخير إلا إلى خدمة حكمها، ذلك إذا لم يكن العنف نفسه وتدمير الحياة المدنية السورية هو الهدف المباشر للدعم وليس الرغبة المجردة لتغيير نظام الحكم.
لم يعد العالم قرىً متنائية عن بعضها، فما يخفيه الإعلام الموجه بات اليوتيوب ومواقع التواصل الأخرى تكشفه ليكون مؤثراً في أحكام الرأي العام، والغرب يحترم إرادة الرأي العام فيه والذي يرى أن البديل الأقوى للدكتاتورية في الميدان السوري هو قوة أسوأ من أسوأ الدكتاتوريات، وهذا ما يضع كثيرا من دول الغرب أمام مسؤولياتها حين تفكر باتخاذ قرار حرب أو توجيه ضربات صاروخية ضد سورية.
تردد أكثر من دولة أوروبية ورغبة أطراف أخرى من المجتمع الدولي في أن تكون مثل هذه القرارات تحت سقف الأمم المتحدة هو بعض مما جعل الرئيس الأميركي أوباما متردداً هو الآخر، خصوصا أن الخبراء الدوليين لم يعرفوا بعد حصيلة ما عرفوه عن الجريمة الكيمياوية وعلى من سيلقون بالمسؤولية المباشرة.
كل هذه الظروف لا تنسجم والمزاج الانفعالي الحاد لدول المحور المناوئ للنظام في سورية، إنه مزاج يريد لمزاجات أميركا والغرب أن تتسق مع طبيعته المنفعلة، بينما دمشق تواصل هدوء دهائها في امتصاص أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة وينتهي إليه نظام حكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق