بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 مايو 2014

«الخضر» أو «مار جرجس» من بيت لحم إلى إنكلترا - خالد الحروب

في الحملات الصليبية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر تفاخر قادتها من غودفري دي بوبون الى ريتشارد قلب الأسد وغيرهم كثيرون بأن جيوشاً من فرسان بيض على احصنة بيضاء كانت تحارب معهم ضد «الكفار» وكانت بقيادة القديس «مار جرجس». صارت تلك الاسطورة جزءاً من تاريخ الحروب، وتوسعت وتضخمت ونسجت طقوساً وخرافات استمرت حتى يومنا هذا. تستحق قصة «القديس مار جرجس» التوقف عندها هذه الايام حيث مر علينا اسبوع اعياد الفصح، ذلك انها قصة فلسطينية وغربية في آن معاً وذات مذاق خاص. انها في الواقع القصة المختلطة لـ «سيدنا الخضر» و «مار جرجس» معاً، وهما الشخصية ذاتها، ابن مدينة اللد الفلسطينية والمنتشرة كنائسه في قلب البلاد بدءاً من مسقط رأسه مروراً بقرية الطيبة قرب رام الله ثم وصولاً إلى قرية الخضر، سميته، غرب بيت لحم. في الثالث والعشرين من نيسان كل عام يحتفل العالم المسيحي بعيد القديس «مار جرجس» الذي رحلت قصته إلى قلب اوروبا ثم نسب علم انكلترا له. وخلال تلك الرحلة التاريخية والطويلة صار معروفاً باسمه الغربي «سانت جورج». يرفرف هذا العلم المعروف الآن باسم «علم القديس جورج» في طول المدن الاوروبية وعرضها، وصورة القديس المشهورة وهو يصارع الوحش الكبير ويصرعه وهو على فرسه تحولت الى ايقونة منحوتة في الوجدان الشعبي على كثرة ما هي منتشرة ومطبوعة في كل مكان. في انكلترا وحدها هناك ما يزيد عن مئة بلدة وقرية اسمها «سان جورج»، والشيء ذاته في اوروبا كلها. على مدى ما يقارب من ألف عام، خاض الانكليز تحت راية «سان جورج» كل حروبهم، ومن اجله مات كثيرون.
الراية البسيطة التي ظلت مرفوعة في المعابد الفلسطينية منذ القرن الرابع الميلادي وهي تعلي من شأن هذا القديس الذي استشهد شاباً دفاعاً عن معتقداته، وفق الرواية المسيحية، او تعلي من شأن «العبد الصالح» مع النبي موسى وفق الرواية الاسلامية في سورة «الكهف»، لا علاقة لها بتلك التي تم اختطافها مع الحروب الصليبية، وترحيلها إلى الغرب، وإعادة انتاجها إلى راية حروب ودماء بعدما كانت راية حب وسلام. صورة الفارس المحارب التي ضخمتها المخيلة الشعبية الغربية عن «مار جرجس» كان الهدف منها تسويغ الحروب الوحشية التي كانت دوافعها السيطرة والنفوذ والسياسة وتجميع الثروات تحت مبرر تحرير القدس من سيطرة الكفار. صورته كمحارب كانت محصورة في منازلته الوحش التنين في بلده وكانت محملة بالرمزية الهائلة اذ هو استطاع ترويض الوحش قبل قتله، وكانت المعركة تعني انتصار الارادة والايمان ولا علاقة لها بخوض حروب حقيقية.
الإرث الحقيقي لـ «مار جرجس» او «سيدنا الخضر» في فلسطين والمنطقة هو خليط العيش المشترك والبسيط ومقاومة الشر والوقوف في وجه الاعتداء والمعتدين. اعمق ترجمة لذلك الإرث هي تداخل الروايات الدينية والتاريخية فيما جوهر القصة لا يتغير تقريباً، والشخصية تظل نفسها إذ يتم تقديمها في سردية دينية هنا وسردية هناك: «سيدنا الخضر» هو «مار جرجس»، المسلمون والمسيحيون يقدسون الشخصية ذاتها كل بطريقته. وعلى الارض تجاورت الأديرة والمعابد والجوامع ومقامات الأولياء وتبادل الجميع زيارة المزارات جميعاً والتبرك فيها. العيش المشترك ظل ديدن الناس حيث امّحت فوارق كثيرة إلى درجة اذهلت الرحالة الاوائل إلى فلسطين في القرون اللاحقة حيث لم يتمكنوا من معرفة المسيحي والمسلم في فلسطين، إلا من خلال عوائلهم. لم تكن هناك «معازل» سكنية، ولا ملابس متميزة، ولا ما يوحي بديانة هذا او ذاك. إنها قصة التعايش التاريخي العفوي والتلقائي يجسدها الخضر القديس، مار جرجس الذي جاء والده من تركيا، واقترن بأمه الفلسطينية بنت اللد، وولد هناك وبقي يجول في المنطقة إلى ان قُتل.
عندما سقطت القدس في ايدي الغربيين في القرن الحادي عشر، وتحت تحالف المصالح بين ملوك الغزو وبابوات الكنيسة الطامعين بالثروات ايضاً، أعملت جيوشهم السيف في رقاب بشر القدس وبيت لحم والمنطقة كلها، وشهدت المدن الوديعة انهاراً من الدم لم ترها من قبل. حزن «سيدنا الخضر» وحزن «مار جرجس» وأنكرا فعلة الدم التي قام بها الغزاة والناهبون. لم يتوقف الامر عند نهب الثروات وبسط السيطرة والجبروت، فقد أراد الغزاة ان يسوغوا فعلتهم بتبرير ديني فأشاعوا ان «مار جرجس» ظهر للجنود الغزاة وهم يقتلون ويذبحون ووقف إلى جوارهم يبارك فعلهم. انتشرت القصة كالنار في الهشيم، ثم تطورت وزيدت عليها مرويات ومبالغات، وأحيل الفوز بالمعارك كلها إلى القديس الذي كان يرعى الجيوش ويحلّق فوق رؤوسهم. تحول «سيدنا الخضر» و «مار جرجس» إلى جنرال كولونيالي يرافق جنوداً غزاة، ويبارك لهم سفك الدماء وسرقة اموال الناس واغتصاب نسائهم.
حمل جنود اوروبا الراية التي جاءوا بها من اوروبا ونسبوها إلى «مار جرجس» في اللد والطيبة وقرية «الخضر» وبيت لحم بعد ان نقعوها بالدم، ثم عادوا بها إلى بلدانهم ورفعوها في كل مكان مع اسمها الجديد. صار «أمير الشهداء» كما يُعرف في اللاهوت المسيحي بسبب صموده الاسطوري في وجه الامبراطور داديانوس وتحمله العذاب ثم استشهاده، أميراً للحرب والغزو والتوحش. وتم اختطاف سيرته وتاريخه وتكفلت المخيلات الشعبية الخصبة بإكمال الصورة الخرافية والشروع في التأهيل الاوروبي الاستعماري للقديس الشرقي. وعندما زحفت العقود اكثر نحو حقب الكشوفات الجغرافية وبخاصة البحرية، كانت راية «سان جورج» تعلو السفن الاسبانية والبرتغالية التي جابت البحار، من شرق الاطلسي نحو الجنوب التفافاً حول رأس الرجاء الصالح، ثم شمالاً وإحاطة بالقارة السمراء، وغرباً نحو العالم الجديد واكتشاف الاميركتين. وصل «سيدنا الخضر» او «مار جرجس» إلى اميركا مع كريستوفر كولومبس وبقي هناك مرافقاً للأوروبيين البيض يحضهم على طحن السكان الاصليين من الهنود الحمر ويبرر لهم سفك دمهم والتخلص منهم. إنها القصة المكرورة شرقاً وغرباً وعلى طول تاريخ الانسانية وعرضها حيث انقضاض السياسة والحرب على الدين ورموزه لتوظيفه واستغلاله.
في غزواتهم وتوسيع مناطق نفوذهم الشاسعة عبر المحيطات ثم بلدان الداخل الافريقي إلى الهند ومروراً بالخليج كانت راية سانت جورج هي «الشراع المقدس» ترفرف ايضاً فوق السفن الحربية البرتغالية. تقف السفن قبالة اية مدينة افريقية ساحلية ثم تنصب مدافعها باتجاه الناس المتجمعين المندهشين من المركب الكبير والهياكل الحديد المستطيلة التي تحملها، المدافع، ويبحلقون فيها طويلاً، وما ان تتجهز وتصير مستعدة لقذف الموت والدمار حتى تنهال عليهم بحمم النار، بينما قادة السفن والجيش يتبسمون تحت راية «سان جورج». وفي قرون الاستعمار المباشر وانتقال راية غزو العوالم غير الاوروبية الى البريطانيين والفرنسيين والطليان انتقلت على تلك الراية صورة القديس الشاب الفارس وهو يطعن التنين برمحه الطويل. تحول «سان جورج» إلى قديس الهوية الانكليزية والبريطانية وصار من اهم اساطيرها المؤسسة.
حان الوقت ايها القديس البريء ان تطالب بك مدنك الوادعة: اللد والطيبة وبيت لحم والخضر والقدس. وحان الوقت للقول ان الحرب الاهم التي خضتها كانت ضد ذلك الوحش الذي احتل نبع البلد وحرم الناس من الوصول إلى الماء. صاروا يقدمون له اطفالهم بعيداً من النبع ويذهب كل يوم لتناول طعامه اليومي فيترك النبع للناس ساعة او ساعتين ليأخذوا ماءهم. كان عليهم ان يقدموا فلذات اكبادهم قرباناً للوحش كيف يستمروا على قيد الحياة. كان سيدنا الخضر او مار جرجس هو من قرر وضع حد لهذه المأساة، فواجه الوحش وحيداً على فرسه وأخضعه ثم قتله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق