بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 أغسطس 2013

عن المواقف التركية من التحولات المصرية صلاح سالم

 
لعل المعضلة الوجودية لإخوان مصر تكمن في أنهم لا يملكون هامشاً واضحاً للتجديد والإضافة إلى البنية الثقافية السائدة، حيث ترسخت دولة مدنية، تتبنى علمانية معتدلة توقر الإسلام وتحترم الأديان فعلاً، وذلك على النقيض من الحركة الإسلامية التركية التي واجهت علمانية أصولية نوعاً، لم تكتف بفصل الدين عن المجال العام، بل حاصرته ولم توقره في المجال الخاص نفسه، فكان لديها مشكلة تتصدى وسؤال يمكن الإجابة عنه. لقد قام الإسلاميون عموماً والإخوان خصوصاً، بهجاء جمال عبد الناصر باعتباره «أتاتورك مصر»، عدو الإسلام. ولم يكن الرجل مسلماً عادياً، كرس لتدين منفتح هيمن على الطبقة الوسطى المصرية التي اتسعت في عهده، لتصبغ بروحها الوطنية المصرية المعاصرة.
كما كان نظاما السادات ومبارك أقرب إلى تركيا الأردوغانية منهما إلى تركيا الكمالية على الصعيد الأيديولوجي، وإن لم يكن على صعيد الإنجاز السياسي ـ الاقتصادي. وهكذا لم يكن للإحياء الإسلامي في مصر مبرر ثقافي ـ تاريخي حقيقي، ولا يمكن فهمه إلا في سياق أزمة الحداثة وانسدادات السياسة، والارتدادات المتولدة عنهما. وهكذا تبدو تجربة «الإخوان» أقرب ثقافياً إلى تجربة «الرفاه» قبل نحو العقدين، أما سياسياً فتشبه تجربة «جبهة الشرق الأعظم» قبل نصف قرن.
ولو أمعن أردوغان النظر لوجد أن تجربته وحزبه أقرب إلى مصر التي كانت قبل 25 كانون الثاني (يناير) على صعيد التوازن الثقافي، أو التي ستكون بعد 30 حزيران (يونيو) على صعيدي التوازن الثقافي، والإنجاز الاقتصادي معاً، ما كان يفرض عليه أن يكون أكثر المرحبين بما جرى في الثالث من تموز (يوليو) لو كان يرغب حقاً في تأسيس علاقة إستراتيجية تقوم على قربي ثقافية مع مصر. أما هذا القدر من الرفض المتشنج لخريطة طريقها فلا يمكن فهمه إلا في ضوء مداخل ثلاثة أساسية. المدخل الأول يتعلق بأزمته الداخلية الراهنة مع معارضيه خصوصاً بعد أزمة ميدان «تقسيم» وخشيته من الإلهام المصري، ويرتبط بذلك أزمته النفسية العميقة مع النزعة الانقلابية للجيش التركي. وهي نزعة غير موجودة لدى الجيش المصري، الذي هب إنقاذاً للدولة المصرية من التحلل، لا إنقاذاً لأيديولوجيا معينة من الفشل كالجيش التركي، فإذا كان الأخير حضر مراراً لرعاية العلمانية الأتاتوركية، فإن الأول استحضر دوماً لرعاية الوطنية المصرية. والفارق هنا حاسم وكبير، ومن ثم يبدو الموقف التركي الراهن من مصر أقرب إلى موقف حزب منه إلى موقف دولة، وكذلك موقف شخص له تركيبته النفسية الخاصة به، ومفتاحها الحقيقي هو معاناته من أزمة كاريزما منقوصة لديه، يود لو اكتملت له إلى الدرجة التي تجعله أباً للأتراك مثل مصطفى كمال بك، أو للمسلمين، وضمنهم المصريون، مثل كل الخلفاء العثمانيين.
والمدخل الثاني يتعلق بتوجهاته المستقبلية، إذ ربما كان الرجل بصدد عملية تحول من الدولة العلمانية التي حكمها، إلى دولة أخرى أقل علمانية، يمكن وصفها بـ «الإسلامية»، ونسبة الحزب الحاكم فيها إلى نمط من «الإخوانية»، وإدراجه في سياق الإسلام السياسي. وهو أمر يبدو من الصعب تخيله لأن البيئة السياسية التي يعمل فيها الرجل لن تسمح له بذلك، فهو لم ينجح إلا بوصوله إلى نقطة التوازن الحرج بين التيارين العلماني والإسلامي، وما إن يتجاوز هذا الحد إلا كان سقوطه مرجحاً، وهو الموقف الذي يخايله بعد أزمة ميدان تقسيم، التي كشفت احتقاناً مكتوماً لدى العلمانيين، سعى للتعبير عن نفسه في الفرصة المتاحة، ولا بد أن الرجل على قدر من الذكاء يسمح له باستيعاب تلك الحقيقة.
والمدخل الثالث يتعلق بطموحات تركيا السياسية في الإقليم، إذ ربما كان الرجل سعيداً بدخول مصر إلى نفق الإسلام السياسي، لتبقى عضواً نشيطاً في تحالفاته، وتابعاً حقيقياً لتوجهاته، أي أنه أراد أن يدير «ضعف مصر» على الطريقة الأميركية مثلاً، بدلاً من الاستثمار في قوتها كحليف استراتيجي لها، وشريك حضاري لشعبها. غير أن هذا الفهم نفسه يبدو قاصراً سواء لأن مصر، تحت الحكم الإخواني، كانت تسير في اتجاه تفجير نفسها باحتضان شبكات إرهاب في سيناء كانت الدولة المرشدية نفسها سوف تضطر ولو بعد وقت غير طويل لمواجهتها ما كان سيجعل من مصر عبئاً كبيراً عليها. أو لأنها كانت تسير في اتجاه يناقض عمقها العربي ومجالها الحيوي خصوصاً في الخليج، وهو اتجاه لا يمكن أن تسير فيه مصر طويلاً لاعتبارات ثقافية وإنسانية مركبة إلى حد التعقيد، كما أنه لا يخدم المصالح التركية نفسها على المدى البعيد، والتي تعتبر القاهرة مدخلاً لمحور الاعتدال العربي، على نحو يجعل من ضعفها خصماً من قيمتها الإستراتيجية، حتى لتركيا نفسها.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق