بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

خمس رسائل من انقلاب مصر سعيد الشهابي




يصعب توصيف قرار جنرالات مصر بالافراج عن حسني مبارك: أهو تحد؟ صفاقة؟ عبثية؟ حرب نفسية تهدف لتوجيه ضربة قاضية للثورة ومكتسباتها؟ ربما يكون الامر مجموع هذه الاعتبارات، ولكن الامر المؤكد ان ما حدث يوم الخميس الماضي كان خارجا عن الوصف والتوقع، لا يقل سوءا ومرارة عن قتل المئات من الاخوان المسلمين في يوم واحد.
هل يعتقد العسكريون انهم حسموا المعركة لصالح الاستبداد واستمرار الوضع الذي كان راهنا قبل الثورة؟ ام ان ذلك بداية لمرحلة في العالم العربي تتسم بالمزيد من الصراعات الداخلية والتفكك والتخلف السياسي؟ انه مشهد لن ينسى ابدا. فالرئيس المنتخب شعبيا معتقل ويواجه اتهامات خطيرة منها التخابر مع جهة اجنبية (منظمة حماس)، والمشاركة في القتل وغيرها من الافتراءات التي كرس اعلام قوى الثورة المضادة نفسه لترويجها. 
محمد مرسي ينتمي لجماعة قتل اكثر من الف من اعضائها بسلاح الجيش، ومع ذلك فهو يرزح في السجن. محمد حسني مبارك المتهم باصدار الاوامر باطلاق النار على المتظاهرين في يناير وفبراير 2011 يطلق سراحه. الحكم العسكري في مصر اليوم يجسد ابشع سنياريوهات الرعب التي لا يستطيع حتى اصحاب الخيال الواسع وصف مشاهدها. العدالة تغيب كاملا عن المشهد حين يطلق سراح الحاكم المستبد الذي اطاحت به ثورة شعبه، بينما يجدد حبس الرئيس المنتخب كل اسبوعين، المتهم بالقتل والتعذيب يفرج عنه، والمفجوع بقتل اخوانه يختطف ويغيب عن جماعته. ان ما اظهرته مصر خلال اسابيع معدودة يفوق في بشاعته ما عانى منه ضحايا الاستبداد والقمع والديكتاتورية في اغلب بقاع العالم. يحدث بموافقة غربية واضحة، تتظاهر بالانزعاج احيانا وتكتفي بالتعبير عن ‘القلق’، وتتواطأ احيانا اخرى في الجريمة، بتكرار اتهاماتها لجهة سياسية مرفوضة من اعدائها المحليين والدوليين، ومحاصرة بانظمة اعلامية وسياسية اعلنت بشكل مكشوف تخصيص مليارات الدولارات النفطية لاسقاطها.
ما الذي حدث للضمير العربي، واين ذهب الوعي والشعور بالحرية؟ كيف استطاعت الرجعية العربية ان تنفذ اخطر انقلاب سياسي في العصر الحديث؟ وربما الاغرب من ذلك ان تواصل الحركات الاسلامية سياساتها الخرقاء التي تتحاشى التصدي لقوى الثورة المضادة وترفض القيام بخطوات تصحيحية لمنع تداعي الموقف وانهاء حالة التصدع في الكيان الاسلامي الحركي الذي استغل الدولار النفطي لغرس الطائفية في كيانه بدعاوى فارغة لا تصمد امام التحقيق الموضوعي ولا تخدم قضايا الامة، بل تهدف لصرف الانظار عن المخطط الانقلابي الذي كان ينتظر ساعة الصفر لادخاله حيز التنفيذ. 
ثمة رسائل سعت قوى الثورة المضادة لتوجييها للمصريين والعالم، من خلال مؤامرتها ضد المشروع الديمقراطي اليافع في اكبر بلد عربي ضحى شعبه من اجل تحقيق تلك الحرية. وهي رسائل ملطخة بدماء الشهداء، وملفوفة باطر من النفاق والدجل، ومدعومة بالمال النفطي الوفير، والموقف الغربي الانتهازي. وكذلك فعلت في بلدان الثورات الاخرى. فأدخلت ليبيا في دوامة من العنف القبلي المختلق وبدأت تغرس بذور تمزيق البلاد الى قبائل واقاليم، مستغلة التيار السلفي لاستهداف عشرات الاضرحة والمساجد التاريخية وتدميرها، واثارة التوتر مع التيارات الصوفية بشكل خاص. وكذلك فعلت فيتونس التي تواجه اليوم تحديات شبيهة بما حدث في مصر قبل اسقاط حكم الاخوان. قوى الثورة المضادة، التي تعتبر السعودية اكثرها اصرارا على مواجهة التغيير، بدأت عملها المضاد للتغيير بالتدخل العسكري السعودي في البحرين في 14 مارس 2011، تبعه هدم المساجد على نطاق واسع، ولما لم تحدث ردود فعل رادعة سواء من المجتمع الدولي او انظمة الثورات الجديدة، او من علماء الدين والمؤسسات الاسلامية، شعرت هذه القوى بقدرتها على توسيع دوائر نشاطها فتوجهت لاضعاف هيبة الحكومات الجديدة المنتخبة، واستدراجها للمشاكل الداخلية المفتعلة. فمثلا التيار السلفي في مصر يعمل على ثلاثة محاور:
اولها التحالف مع الاخوان
المسلمين والحضور بشكل مكثف في ساحة مسجد رابعة العدوية لاظهار التضامن والتحالف معهم، ثانيها: التواطؤ مع العسكر لاسقاط الرئيس مرسي وحكم الاخوان، ثالثها: ارتكاب اعمال العنف في سيناء وغيرها لتوفير الذريعة لاتهام الاخوان بالعنف. وقد نجحت هذه الخطة وتم الايقاع بالاخوان وتوفير غطاء ديني للانقلاب العسكري الذي سرعان ما تحول الى مشروع دموي تصفوي حصد ارواح المئات وربما الآلاف من المصريين. لقد استطاع ذلك الاعلام خلق حالة من التشاحن بين ابناء الامة غير مسبوقة، وما تزال انعكاساته تمنع التواصل بين المسلمين، برغم تعرض الجميع لعدوان الجهات المضادة لحرية شعوب الامة والرافضة لحرمانها من التمتع بحق تقرير المصير. والامر المثير للانزعاج والشعور بالأسى تشبث الشرائح المثقفة من ابناء الامة بالمواقف التقليدية تجاه انظمة الحكم التي جثمت على صدور المسلمين قرونا بدون ان تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات او مسايرة قوى التغيير، او اعلان القبول بمشروع الحرية وحكم الشعب وكتابة الدستور والتحرر الوطني وما يستلزمه ذلك من اعداد مادي ونفسي للشعوب وطلائعها الثورية.
الرسالة الاولى اعلامية تهدف للتأثير النفسي واعداد الارضية النفسية لاستهداف مرسي وجماعته لاحقا. ومن يتابع اعلام هذه القوى في العامين الماضيين، لن يرى سوى استهداف الثورات واثارة الشكوك حولها والتشكيك في صدقية روادها، واختلاق العقبات امامها، واثارة التوتر في بلدانها، وان اقتضى ذلك ارتكاب اعمال ارهابية والقاء اللوم بشأنها على القوى الثورية او الحكومات المنتخبة. وسعت قوى الثورة المضادة لتجويع شعوب بلدان الثورة، واضعاف قبضة الحكومات المنتخبة على اهم مفاصل الدولة خصوصا في مجالات الدفاع والامن والمؤسسات الدستورية. كما حاولت بث القلاقل في اوساط المجتمع. وفي مصر بشكل خاص افتعلت حوادث عنف مع المسيحيين، برغم ان الاخوان سعوا مرارا لتشكيل جبهة سياسية مشتركة معهم. فاستهدف بعض الكنائس، ودفع بعضهم للتظاهر ضد حكم الاخوان ومدت جسور التواصل الغربي مع اقباط مصر، وتم تحريض بعضهم لتنظيم مسيرات ضد الحكم خصوصا في المناطق الغربية من مصر. وطوال العام الماضي تمت تشويه صورة الاخوان بشكل منظم غير مسبوق، والصقت بهم التهم تباعا وبشكل متكرر حتى تم في الوجدان الشعبي الربط بين الاخوان والدولة الفاشلة. تلك القوى حرمت مصر من المعونات المالية وضغطت على صندوق النقد الدولي لعدم التعاون مع القاهرة، وتم تقليص كميات الوقود المصدرة لها، وكانت تخطط ببطء لاحداث بلبلة اجتماعية بشكل تدريجي لسلب شرعية حكم الاخوان، بتثبيت مقولة فشله لدى الرأي العام.
فما ان تتحدث لشخص حول الوضع المصري حتى تطرح مقولة فشل الاخوان خلال عام واحد من الحكم، هذه هي الصورة العامة المراد غرسها في اللاشعور العام. ولو وجهت اسئلة حول مصاديق ذلك الفشل لما استطاع الادعياء توفير ادلة قاطعة على ذلك ‘الفشل’ برغم رفعه شعارا مستمرا من قبل اعداء الديمقراطية والحرية في العالمين العربي والغربي. صورة الدولة الفاشلة هي التي رسمها الاعلام النفطي بوضوح، واقنع الرأي العام بترديدها مستغلا عدم قدرة الجماهير على التثبت من تلك الادعاءات، او رغبتها في فحص الحقائق. هذا الاعلام هو الذي يظهر بعض الافراد الذين يكررون مقولة: الوضع تحت حكم مبارك كان افضل. كلمات تطلق هنا وهناك جزافا بدون دليل، الهدف منها اضعاف وهج التجربة البرلمانية.
فمع اضطراب الاوضاع المعيشية بسبب سياسات قوى الثورة المضادة، وعدم الاستقرار الامني نتيجة انتشار عناصر التيارات المتشددة بعد سقوط انظمة الاستبداد السابقة، أصبح ازدراء حكم الاسلاميين امرا سهلا استطاعت تلك القوى تحقيقه. إعلام الدولار النفطي لعب دورا هداما لتشويه صورة حكم الاخوان لتوفير ذريعة اسقاطه، حتى بلغ الامر ان من يطرح وجهة نظر مغايرة يشعر بالحرج لانه يسبح عكس التيار.
الرسالة الثانية: ان التغيير يمنحه السلطان ولا تحدد اطره قوى الشعب. فالحاكم يعرف ما يصب في مصلحة شعبه، ولا يتوانى عن تقديم ذلك. كما انه يقدر حجم التغيير ومداه وعمقه استنادا لمعرفة الحاكم بالاستعداد الشعبي للممارسة الديمقراطية. فما تزال مقولة ‘التفويض الالهي’ معششة في اذهان الحكام العرب خصوصا الذين يحكمون بيئات تقليدية تحترم الدين وتتمنى ان يكون حكامها كذلك.
والمنطق يقتضي، وفق اطروحة الحفاظ على الوضع الراهن، احترام الحكام الحاليين وان بقاءهم افضل من التغيير. فالمواطن هنا يختزل في ما يشبع بطنه، وليس ما يحقق طموحات روحه ونفسه. وقد هيمن الحكام على ثروات الامة واستغلوها لترسيخ مواقعهم ومنع محاولات التغيير، فهي تستخدم لمقايضة الغرب بشراء السلاح في مقابل توفير الامن لهم وحمايتهم من شعوبهم، وبها تشترى المواقف والضمائر والاقلام، وتؤسس بها الامبراطوريات الاعلامية العملاقة التي تشوه الحقائق وتزيف الواقع. ونظرا لضخامة العائدات النفطية فقد وفرت مستويات معيشية عالية في البلدان النفطية، فاصبحت تلك المستويات مانعا عن التغيير ووسيلة ابتزاز ضد النشطاء السياسيين والحقوقيين. فالاعلام يغرس في النفوس مقولة ان التغيير سيحول البلاد الى جحيم وفقر وفوضى امنية وسياسية، وان الحفاظ على انظمة الحكم الحالية سيوفر على الشعب المعاناة المتوقعة. ويشار هنا الى ما جرى في الجزائر وما يحدث في العراق وافغانستان، وما جرى مؤخرا في مصر. 
هذه القوى الشيطانية تسعى لمحاصرة مشاريع التغيير الديمقراطي باثارة الفتن والاضطرابات والمصاعب المعيشية في البلدان المقبلة على التغيير، وبدلا من ان يكون ما بعد التغيير باعثا على الامل في نفوس مريديه، يتحول الى بعبع لا يريده احد. ولذلك يظهر الاعلام المدعوم بالمال النفطي مشاهد من الشوارع المصرية يبدي البعض فيه أسفه على ‘أيام مبارك’ برغم استبداده وظلمه وتعذيبه ومصادرته الحريات العامة وتغول اجهزته الامنية ووضع يده على المال العالم.
ثالث اهداف ما جرى في مصر إسقاط مشروع الاسلام السياسي، واظهاره فاشلا وانه ليس خيارا للشعوب العربية التي ‘التفت حول قياداتها’ التي ‘بدأت تطور نفسها’ و ‘تحتضن التغيير’. لقد كان مشروع الاسلام السياسي مرفوضا من قبل الغربيين منذ انطلاقته في ايران قبل اكثر من ثلاثة عقود، وبعد حروب طويلة ضده، ربط لاحقا بالتيارات المتشددة وتم اظهاره خطرا على السلم الاجتماعي ومشجعا على العنف. هذا مع العلم ان قوى الثورة المضادة هي التي احتضنت التيارات العنيفة ودربتها وامدتها بالسلاح وما تزال. بينما يُرفض تيار الاسلام السياسي برغم تنوره وتناغمه مع أمة المسلمين، ويحاصر ويعتقل رموزه ويعذب نشطاؤه، لان اجندته لا تتوافق مع الاطماع الاجنبية في المنطقة. الغرب يسعى لفرض الكيان الاسرائيلي بشتى الوسائل، بينما الاسلاميون يرفضون ذلك، ويؤسس سياساته لابقاء العرب والمسلمين مهمشين حتى في ما يتعلق باوضاع بلدانهم، ويرفض ان يكون قرارهم السياسي والاقتصادي مستقلا. تلك القوى هي التي روجت المشروع الطائفي لتمزيق مكونات المشروع الاسلامي وفصائله، لتعمق مقولة ان الدين عامل تفتيت وتمزيق ولا يحقق وحدة الامة.
الهدف الرابع مما جرى في مصر اظهار توافق ودولي ضد التغيير في جبهة تبدو موحدة في الوقت الحاضر. فالموقف الغربي من الانقلاب العسكري في مصر اكد تواطؤا واضحا، فلم يُشجب الانقلاب، ولم يدعم الغربيون شرعية الخيار الشعبي، واكتفوا باطلاق تصريحات فضفاضة ليس فيها التزام اخلاقي او مبدئي. الرسالة كانت واضحة: ان الغرب وانظمة المنطقة ضد التغيير الديمقراطي، وان الغرب لن يعارض اسقاط المشروع الاسلامي اذا وصل الى السلطة. فهذا ما فعله في الجزائر ويفعله اليوم في مصر.
والرسالة الاخيرة التي بعثها انقلاب العسكر ابراز تحالف القوى الرجعية العربية في حالة جديدة مختلفة وكأنها قوة سياسية امنية عسكرية توازي الغرب وتستطيع اتخاذ القرارات التي تناسبها بعيدا عن شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. المقصود بهذه الرسالة تأجيل المشاريع التغييرية في الشرق الاوسط حتى يتم حسم الازمة الفلسطينية باقامة دويلة فلسطينية على بقعة صغيرة من الارض والتطبيع مع الكيان الاسرائيلي. عندها سيكون ممكنا احداث شيء من التطوير في البنية السياسية العربية. الامر المهم هنا ان هناك وعيا جماهيريا يزداد تبلورا بضرورة التغيير السياسي والايديولوجي وترويج العوامل المشتركة بين مكونات الامة، والتوافق في جبهة عريضة لمواجهة الاحتلال والاستكبار والاستبداد. وهنا تكمن مهمة النخب المثقفة وعلماء الامة ومنظرو التغيير، بان من الممكن وقف مسار استهداف الثورات، واعادة مشروع التغيير الجماهيري ليتصدر اجندة الثوار، ومواصلة المشوار السياسي حتى تتوفر لشعوب المنطقة فرص التعير عن المواقف والسياسات، وسيكون الاسلام عنوان المعركة وسيد الموقف وثمرة النضال الشعبي والوطني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق