بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 26 أغسطس 2013

الإرادة والشرعية... بين خطابين! مصطفى الفقي


كرر الرئيس المصري السابق محمد مرسي كلمة «الشرعية» أكثر من خمسين مرة في خطابه الأخير قبل عزله، وتحدث نائب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة المصرية الفريق أول عبدالفتاح السيسي عن مفهوم «الإرادة» في آخر خطبه مؤكداً عبارته «إن شرف حماية إرادة الشعب أعز علينا من حكم مصر». ولقد دفعني ذلك إلى التأمل في العلاقة بين «الشرعية» و «الإرادة»، فالأولى وسيلة بينما الثانية هي غاية ولا يمكن أن يكون الأمر هو العكس، لأن نظم الحكم تحتاج إلى تأكيد شرعيتها من خلال تواصل «إرادة الشعب» نتيجة قبولها والالتفاف حولها، فإذا كانت «الشرعية» ترتبط بـ «صندوق الانتخاب»، فذلك لأن الصندوق هو «آلية» ترتبط بـ «الشرعية» للسعي نحو تحقيق «إرادة الشعب» في لحظة معينة، ولا يعني «الصندوق» أبداً وجود صكٍ مفتوح لنظام معين أو تفويضٍ دائم لحاكم بعينه، أما «الإرادة» فهي تعبير أشمل وأعمّ لأنها تعني القبول الطوعي لدى المواطنين بالحاكم واستمرار شعبيته، وإذا نظرنا إلى العامل الخارجي بشيءٍ من التوجس والريبة فإننا نكتشف أن المصالح الضاغطة للقوى الأجنبية ذات تأثير كبير في المسار العام للمشهد القائم. ويكفي أن نتذكر أن أسف الإسرائيليين على سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك لم يكن بالدرجة او الحدة نفسها التي كنَّا نتوقعها، بل مضى الأمر لديهم بأسفٍ موقت وبل وبرضا مكتوم، ذلك أنهم كانوا يدركون أن ما هو قادم في مصر سيشكل بيئة جديدة مواكبة للمصالح الأميركية عموماً والأهداف الإسرائيلية خصوصاً، لأن خفايا الاتصالات غير المعلنة بين جماعة «الإخوان المسلمين» والإدارة الأميركية وتوابعها كانت معلومة لتلك الأطراف بما فيها الطرف الإسرائيلي، وقد ذكرت ابنة القطب الإخواني المهندس خيرت الشاطر على صفحتها الالكترونية أن لديهم من الأدلة والبراهين ما يدين الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي يبدو أنه لم يفِ بعهوده مع الجماعة في حالة تعرضها لخطر كما كان متفقاً عليه، وتلك القراءة في مجملها توضح أنه يمكن استخدام «الشرعية» ضد مصالح من صنعوها في غيبة الشعوب التي منحت تلك «الشرعية» في لحظة معينة، وهنا يقفز عنصر «الإرادة» ليشكل العامل الحاسم في تحديد المسار الكلي للأحداث، ولعلنا نبسط الآن شيئاً مما أجملناه في هذه المقدمة:
أولاً: إن «الشرعية» تعبير يحمل دلالة قانونية أكثر من مفهومها السياسي، فـ «الشرعية» تعبير عن مشروعية الحكم وقبول بالحاكم في مرحلة معينة، ولكن تلك «الشرعية» التي تقوم على آلية «صندوق الانتخاب» تتغيّر من وقتٍ الى آخر لأنها تعني أن القبول العام لـ «الجمعية العمومية» المتمثلة في جماهير الشعب المختلفة ليست مطلقة، من هنا فإن «الشرعية» ذات دلالة قانونية نسبية، فالشعوب تستطيع أن تسحب «التفويض» متى أرادت وأن تغيِّر مسار «الشرعية» إن شاءت.
ثانياً: إن «الإرادة» مفهوم سياسي شامل يعبِّر عن المشاعر الكامنة لدى الشعوب وتتحول هذه المشاعر إلى فعلٍ ملموس لتغيير الواقع القائم، فـ «الإرادة» في ظني تمثل آخر مراحل «الشرعية» وأعلاها قيمة وأكثرها تأثيراً في حاضر الأمم ومستقبل الشعوب. فـ «الإرادة» هي التعبير الجمعي عن الرغبة المشتركة لمواطني الدولة - أو أغلبهم في لحظة معينة - تجاه ما يجري حولهم وما يدبر لهم بل وما يستهدف مقدراتهم الوطنية ومصالحهم القومية.
ثالثاً: إن «صندوق الانتخاب» آلية مستحدثة لإمكانية التعبير العملي عن «إرادة الناس» في لحظة معينة هي لحظة التصويت الانتخابي، فـ «الصندوق» في النهاية وسيلة بديلة عن إمكانية التقاء «الجمعية العمومية للوطن» ولو في شكل تظاهراتٍ حرة بعشرات الملايين الحاشدة التي تخرج تلقائياً للتعبير عن «الإرادة» الآنية التي تعكس ضمير الوطن في أكثر لحظاته يقظة واندفاعاً وأدق مراحل حياته روعة وتوهجاً.
رابعاً: إن «الشرعية» - كما قلنا - تعبير نسبي بينما «الإرادة» مفهوم مطلق، ومن هنا يبدو الخلط الذي وقع فيه البعض عند توصيف ما جرى في مصر باعتباره «انقلاباً». وبالمناسبة، فإنني لا أزعم أن ما حدث كان شيئاً طبيعياً بل أميل إلى التسمية التي أطلقها وزير الخارجية المصري نبيل فهمي عندما ذكر أن ما جرى في مصر في الثالث من تموز (يوليو) لم يكن انقلاباً ولكنه كان ظرفاً استثنائياً أملته الإرادة المصرية التي نقلت مفهوم «الشرعية» من «صندوق الانتخاب» إلى حشود الملايين على نحو غير مسبوق في التاريخ الحديث، لذلك فإن محاولة الخلط المتعمد وسحب مفهوم «الشرعية» عن «إرادة الملايين» هي مؤامرة سياسية قبل أن تكون مغالطة قانونية.
خامساً: إن «شرعية الحاكم» مستمدة من «إرادة الشعب» وليس العكس، والذين يتحدثون عن قوله تعالى (وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم) إنما يتحدثون عن الحاكم الصالح الذي ترضى عنه «الرعية»، الحاكم العادل للبلاد والعباد وليس ممثل الفاشية الدينية التي تضر الإسلام الحنيف أكثر بكثيرٍ مما تتصور أنها قد نفعته، ولذلك فإنه لم يكن غريباً أن الأنظمة الوراثية ذاتها تمكنت في بعض المراحل من إقصاء بعض ملوكها عن العرش إما طواعية مثل إدوارد الثامن في بريطانيا أو قسراً مثل الملك الراحل سعود، لأن تلك الأنظمة تدرك أن «الشرعية» الممنوحة للعائلة الحاكمة تتأثر سلباً وإيجاباً بشخص من يجلس على سدة الحكم أو على قمة العرش.
سادساً: إن ما جرى في مصر أخيراً يحتاج إلى التأمل لأنه يقدم نموذجاً جديداً لعمليات التحول الديموقراطي بشكل مختلف قد لا تخلو من استثناء ولكن يبقى ذلك في النهاية تعبيراً عن «إرادة» شعب، خصوصاً أن الحاكم الذي أطاحوا به والجماعة التي لفظوها لم يحققوا في «الصندوق» قبل ذلك بعامٍ واحد إلا غالبية ضئيلة في ظل ظروفٍ معقدة لبلدٍ خرج من عباءة حكم فاسد فكانت ملايينه مندفعة نحو نظام حكم جديد، وكان «الإخوان المسلمون» هم الأكثر تنظيماً، لذلك قفزوا على السلطة بسرعة لم يتوقعها أحد بعد شوقٍ لها وتطلع إليها لأكثر من ثمانين عاماً، وبالمناسبة فإنني لست ضد حرية المواطن في أن يعتنق فكراً معيناً أختلف معه، بل إنني أعتصم في ذلك بمقولة الإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» أو مقولة فولتير في الفكر الغربي الذي يقول «إنني على استعداد أن أدفع حياتي ثمناً للتعبير عن رأي أختلف معه». ولذلك فإنني أرى أن محاولة تعقب بعض عناصر «الإخوان المسلمين» من الدرجات غير القيادية في التنظيم هو أمر لا مبرر له، والدولة هنا يجب أن تتصرف بحكمة بالغة واضعة في الاعتبار أن حرية الفكر أمر لا غبار عليه ولكن الشيء الذي نرفضه هو التعبير عن الرأي بالوسائل العنيفة أو بالخروج عن القانون.
سابعاً: لا يمكن الحديث عن مفهوم «الإرادة» أو «الشرعية» في مصر في معزل عن السياق العام للمنطقة كلها، فنحن نعتقد أن ما جرى في الفترة الأخيرة وما يدور حالياً في مصر هو جزء من منظومة كبيرة اجتاحت المنطقة كلها ومارست تأثيراً كبيراً فيها يمهد لخريطة سياسية جديدة، فهل نتصور أن الاتفاقات الضمنية غير المعلنة بين جماعة «الإخوان المسلمين» في جانب والولايات المتحدة الأميركية وتوابعها في جانب آخر هي منعزلة عن مستقبل الصراع العربي-الإسرائيلي؟ أو عن التوقعات المحتملة لما يجري في سورية حالياً؟ إنني أرى أن الأمر شديد الاختلاف أحياناً ولكنه يدخل في مجمله داخل إطار واحد هو الرغبة في التدخل الخارجي والسيطرة الأجنبية بوسائل سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، ولا مانع في هذه الحالة من استخدام الدين الحنيف كأحد الأدوات في ذلك الشأن!
هذه رؤيتنا المباشرة لما جرى ويجري في مصر والذي كان من نتائجه دعمٌ قوي من معظم دول الخليج العربي بقيادة المملكة العربية السعودية للأهداف الرائدة التي حققتها انتفاضة الشعب المصري في 30 حزيران (يونيو) 2013 والتي تجعلنا نقول بكل إيمان وثقة أن أبا القاسم الشابي شاعر العروبة التونسي كان يرى المستقبل بعيني «زرقاء اليمامة» حين قال: إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر.
وذلك بالفعل هو ما حدث، فقد حطّم المصريون القيود والأغلال وانطلقوا بالملايين، إلى الشوارع والميادين، يطلبون الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية... إنه مخزون حضاري لتراكم طويل من قرون المجد العربي والحضارة المصرية!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق