لم يبق أمام رئيس الحكومة المغربية إلا الانصياع لشروط غريمه السابق تجمع الأحرار، لتأمين غالبية نيابية تضمن استمرار حكومته التي صارت مثل بطة عرجاء، منذ انسحاب وزراء الاستقلال. والسبب أن أحزاباً أخرى أعرضت عن طلبه للانضمام إلى حكومته وفضلت الاسترخاء على مقاعد المعارضة وتوجيه رسائل إلى عبد الإله بن كيران مفادها أنها لا تريد إطاحة حكومته، عبر استخدام نفوذها وما يتوافر لديها من أوراق وإنما تمارس دور المعارضة الذي أصبح مطلوباً أكثر.
الراجح أن المعارضة، وقد أيقنت بنهاية ربيع الحكومة التي توالدت من زخم الحراك الشعبي الذي كان سائداً، ترغب في منحها المزيد من الوقت إلى أن تفرغ كل ما في جعبتها من طلقات. وبعد أن كان «العدالة والتنمية» يقول باستحالة التحالف مع أحزاب يمينية صنفها ضمن خصوم تاريخيين وضع أمامهم خطوطاً حمراء، اضطر قبل منتصف ولايته أن يطلب ود بعضها، من دون إحراج. لكن الأمر بالنسبة لخصوم الحزب الإسلامي أشبه بإزالة اللثام عن تناقضات بين الخطاب السياسي السابق ونظيره الحالي الذي ينقلب وفق أحوال الطقس الملتهبة كثيراً في البلاد.
والأهم في هذا الانجذاب إلى كرسي الحكومة، أن حزباً آخر اسمه «الأصالة والمعاصرة» لم يكن الإسلاميون يتصورون إمكان الجلوس إلى جانبه على طاولة مفاوضات، نأى بنفسه بعيداً عن طلب الانضمام إلى حكومة بن كيران، مردداً أن رئيس الحكومة أخطأ العنوان. فيما أن «الاستقلال» فجر سابقة من خلال انسحابه، ستدفع بن كيران إلى معاودة التفكير في أي قرار قبل الإقدام عليه. فالتحالف مع «الاستقلال» كان أهون بالنسبة للإسلاميين، كونه يشاركهم المرجعية والاعتدال، عدا أن رمزيته تشير إلى انضمام الإسلاميين إلى الجيل الجديد من امتدادات الحركة الوطنية.
لم تؤثر الأوضاع المحلية وحدها في أداء حكومة الإسلاميين التي ضمت ائتلافاً داعماً من صهر أحزاب أخرى. ولكن التطورات الإقليمية التي شدت الانتباه إلى ما يحدث في مصر ثم تونس وليبيا أضعفت موقف إسلاميي المغرب. وعلى رغم أنهم لا يدينون بالولاء لنفس المرجعية، لأسباب تطاول الإسلام السياسي في منطقة الشمال الأفريقي وغلبة النزعة الدعوية والصوفية وتأثير دور العلماء في النصح والتوجيه، فإن الأبعاد السياسية التي تجلت في إمكان إقامة هلال إسلامي تكون منطقة الشمال الأفريقي قطبه المحوري، جعل مفهوم التضامن بين الحركات الإسلامية يتجاوز الواقع. ولم يكن غريباً أن تبدي بعض حكومات المنطقة تحفظات إزاء ما يجري في مصر، مخافة أن يجرفها التيار, بل إن دعوات تنظيم تظاهرات داعمة لعودة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي كانت نشازاً في الشارع المغاربي. لكنها تحركت بدافع الولاء الديني أكثر من الالتزام السياسي.
لكن التململ في مواجهة حكومة بن كيران بدأ قبل اندلاع حركة «تمرد» المصرية. وما يضفي عليه بعض الغرابة أنه صدر من داخل السقف الحكومي، فقد انبرى «الاستقلال» لإسماع صوته المعارض وهو في الائتلاف الحكومي، إلى درجة أن نبرته اتسمت بشراسة لم تلجأ إليها فصائل المعارضة. غير أن ميزتها أنها انبثقت من المعاينة المباشرة لواقع تدبير الملفات والقضايا، ما نزع عنها صفة الاستخدام السياسي. وأقصى ما كان يطلبه «الاستقلال» فتح حوار يعيد عقارب الساعة في اتجاه تنفيذ التزامات حكومية سابقة ذات أبعاد نقابية واجتماعية. مبرره في ذلك أن الأمر يعكس استمرارية لا يمكن شطب معالمها بين حكومة وأخرى. وإن فهم أنه يدافع عن الحكومة التي رأسها زعيم الحزب السابق عباس الفاسي.
من خلافات حزبية إلى أزمة حكومية تضاعفت ملامحها، تبرز بعض أوجه الحالة المغربية. ذلك أنه بدل الدعوة إلى رحيل الحكومة أو إسقاطها اختارت فصائل المعارضة دعمها إلى حين انتهاء ولايتها أو ظهور ما يحتم قطيعة لا رجعة فيها. ثم عوض أن يركن الحزب الحاكم إلى أنانيته ويغلق الباب على نفسه اضطر إلى محاولة تجريب الانفتاح على أحزاب كان الود معها مفقوداً. وإلى جانب هذه الصورة تصاعدت حدة الخلافات بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية إلى درجة أن الكتل النيابية المعارضة تقاطع رئيس الحكومة، وتتوزع الاتهامات بين الغالبية النيابية وبعض مكوناتها إزاء تدبير اللحظة البرلمانية، لكن ذلك لا يلغي مظاهر التعايش القائمة. ولعل ما أسعف المغاربة في التعاطي مع هذه التطورات بقدر أقل من التعصب أنهم جربوا مفاتن الشارع ومضاعفاته. كما عاينوا المدى الذي وصلت إليه تجارب أجهزت على أسس مكونات الدولة، وصارت الهواجس لا تزيد عن تأمين السير العادي لقطاعات تطاول الأمن وحماية الممتلكات والخروج من البيوت من دون خوف.
مثل الحالة المغربية وإن اختلفت في منطلقاتها ونتائجها وصيرورتها، تأثرت الجزائرية بالعشرية الدموية التي أنهكت بنيات الدولة والمجتمع. لذلك حين طرح السؤال عن الأسباب الكامنة وراء التحفظ الجزائري وعدم مجاراة الحراك الذي اندلع على خلفية ما يعرف بالربيع العربي، كان الجزائريون وحدهم يملكون أجوبة قاطعة، تنطلق من عمق المعاناة. والأكثر تشاؤماً من بينهم بات يرى أن انقلاباً واحداً على الشرعية أفضل من عشرات الانقلابات على مكونات الهوية وثوابت التعددية والاختلاف والحرية. وإنها لحالة غريبة أن تبدو الجزائر متعايشة مع فراغ السلطة، من دون الحاجة إلى رفع شعارات الرحيل، كما أن المغاربة يتركون لحكومتهم فرصة التقاط الأنفاس لاختيار شركائها في التعايش. وأيضاً من دون المطالبة بالرحيل
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق