لبنان بلد التسويات السياسية. التسويات بين «المكونات» أتاحت إقامة الدولة. هذا تاريخه منذ إعلانه كبيراً، وضم الأقضية الأربعة إلى جبله. لا بل منذ فخر الدين المعني الكبير أيضاً (لتمييزه عن فخر دين صغير). تفاهم طائفتين يكره الثالثة على قبول الواقع. أي تحول ديموغرافي لدى طائفة يخل بالتوازن. أي إخلال بالتوازن تنتج منه حرب أهلية. الطوائف مرتهنة للخارج، القريب منه والبعيد. الإقليمي منه والدولي. عندما يختلف رعاة الطوائف يصبح لبنان على حافة الهاوية. ولا بأس أن تستجلب السلطة جيوشاً أجنبية للفصل بين المتحاربين. هذا ما حصل عام 1958، عندما كان نصف اللبنانيين مع مصر الناصرية ونصفهم ضدها. وهذا ما حصل عام 1975 عندما كان نصفهم مع الثورة الفلسطينية وآخرون ضدها. بعضهم لجأ إلى الاستعانة بالجيش السوري. وآخرون لم يروا مانعاً من الاستعانة بـ «جيش الدفاع» الإسرائيلي لتكون لهم الغلبة. انتصرت دمشق في بيروت. تلكأت في ترتيب الوضع فكان اتفاق الطائف. اتفاق أعاد بعض التوازن إلى «المكونات». لكنه قسم البلد عمودياً. بعضه مع سورية، استقوى بجيشها لتكون له حصة الأسد في السلطة. نصفه ضدها لكنه كان صامتاً. أو مقموعاً بقوة الوصاية. أو لتخلي الخارج عنه. وتسليمه إدارة شؤونه إلى دمشق بالتفاهم والتراضي. لم ينتفض اللبنانيون ضد سورية إلا عندما قررت الولايات المتحدة «تحريره» من الوصاية. وعندما استصدرت القرار 1559. رافق ذلك اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. انتصرت «ثورة الأرز». خرج الجيش السوري. زاد الانقسام. وصل اللبنانيون إلى حافة الحرب الأهلية. لكن المنتصرين اكتشفوا أن السلاح المقابل أقوى. وأن تحرير الجنوب، قبل ذلك، أعطى هذا السلاح شرعية محلية وعربية. محاولات نزع هذا السلاح لم تهدأ.
عندما شنت إسرائيل حربها عام 2006 كان المغلوبون على أمرهم من اللبنانيين يأملون بنجاحها في تدمير ترسانة «حزب الله». لكن الحزب بمساعدة إيران وسورية استطاع الصمود. وزادت حاجة محور دمشق - طهران إليه. تضاعف خطره على المحور الآخر. شكلت ميليشيات لمواجهته. لكنها، على رغم الرعاية، بقيت مجرد شراذم تسيطر على أحياء في هذه المدينة أو تلك. تزعم دعم المسلحين في سورية، فيما همها تجارة السلاح والتهريب. لا هي قادرة على قلب المعادلة في الداخل. ولا على المساعدة الفعلية للسوريين. أصبحت الميليشيات عبئاً على رعاتها اللبنانيين وغير اللبنانيين (ربما كانت ظاهرة أحمد الأسير في صيدا أفضل ما يعبر عن هذه الحالة).
طوال هذه المرحلة حاول رئيس الجمهورية أن يكون «محايداً». دعا إلى الحوار لوضع استراتيجية دفاعية. أفشله المتحاورون ورعاتهم. معادلة الجيش والشعب والمقاومة انتهت. لم تعد تصلح لا للداخل ولا للخارج. هذا ما قرره الرئيس ميشال سليمان أخيراً. حجته أن مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية أفقدته صفة المقاومة. وعليه وضع سلاحه في تصرف الجيش.
واقع الأمر أن مسألة السلاح الشرعي وغير الشرعي ليست مستجدة. لكن سليمان استند في خياره إلى ما هو أبعد من ذلك. رأى أن التحول في الموقف العربي الرسمي وغير الرسمي لم يعد إلى جانب المقاومة. وأن أوروبا، بعد الولايات المتحدة، أصبحت تعتبرها إرهاباً. وسورية غارقة في حروبها. وأضعف من أن تدافع عنها. وإيران أصبحت الشيطان الأكبر في نظر العرب. هذه هي المعادلة كما قرأها الرئيس والمحيطون به. فقرر الانحياز إلى المحور الأقوى.
نضوج الظروف الإقليمية والدولية لا يعني أبداً أنها ناضجة في الداخل. وربما احتاج الأمر إلى اقتتال الطوائف مرة أخرى. فهل يساهم موقف الرئيس في إنضاجها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق