بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

المدينة العراقية.. هشاشة التمدن ورعب العشوائيات -علي حسن الفواز



المدينة  العراقية تواجه تهديدات عمرانية وثقافية خطيرة،  اذ  بدت هذه المدينة  وكأنها بلا هوية، امكنة خارج التصميم  العمراني، محشوة بالكثير من العشوائيات الهندسية، خالية من التنسيق، وبعيدة عن تاريخ(البغددة) الذي ارتبط بفكرة المكان، وبطبيعة الموجود المكاني..
السؤال الذي يقف  ازاء هذا المعطى هو: من المسؤول عن ذلك؟  ومن هي الجهة التي يمكن ان تتبنى استعادة بغداد  العمرانية والتصميمية؟
هذا السؤال الجامع يعني ان عشوائيات بغداد  العمرانية والاسكانية والتصميمية ستتحول خلال  زمن قريب الى رعب مكاني، وستزحف على روح المدينة، وستسحق ذاكرتها وهويتها، وماتبقى من مدوناتها التاريخية، وهو مايستدعي ان تبادر الجهات المعنية في الدولة العراقية، وفي امانة بغداد ومحافظة بغداد لادراك خطورة تنامي هذا الرعب المكاني..
مشروع البناء المديني، او حتى استعادة المدينة بوصفها تاريخا، لايعني عزلها في توصيف او تصميم معين، بقدر ما يعني التعاطي مع ضرورات الحفاظ على جوهر هذه المدينة، وعلى قيمتها في الذاكرة العربية والاسلامية وفي اساطير ومثيولوجيات  الثقافات  الانسانية، وهذا يستدعي تأمين مجموعة من الضوابط والشروط  للبنية العمرانية، و لمنع تجريد المدينة من مساحاتها والاكتفاء بتحويل هذه المدينة  التاريخية والجمالية الى مجال اسكاني  مجرد، أي الى مايشبه الغيتو الصياني  للناس، بعيدا عن  الاعتبارات والخطط  التصميمية والحضرية والبيئية والجمالية التي تتبناها كل المدن المتحضرة، وهو مانشاهده في  مدن  العالم الواسع. 
ان افقاد  المدينة خصوصيتها  وتعويمها وسط عمرانات طارئة وتجارية، يمثل  تحويلا قهريا لخصوصية المكان، واخضاعه  الى فكرة الاستعمال الخدمي، أي  ربط المدينة  بالاستهلاك والسوق، مقابل تجريدها  من  شروطها كمكان حضري وثقافي له تاريخ مهم في  العقل  الانساني والعربي والاسلامي، كون بغداد  مدينة مرجعية للعمران  والبناء والثقافة والادارة والتنظيم، وحتى الاسواق فيها كانت جزءا من  البنية العمرانية الخاضعة للتوصيف  المديني الثقافي والجمالي والتسويقي، وبقطع النظر عن ماتعرضت  له المدينة طوال  العقود  الماضية من ظروف امنية وسياسية واجتماعية معقدة الاّ ان هذا لايعني الاستمرار في تهجير المدينة من  التاريخ الى الاستعراض، ومن ثقافة القيمة الى ثقافة الفرجة، ومن  التنظيم الى  العشوائية..
صورة بغداد اليوم  كالحة، واغترابية، مدينة تتعكز على ظلال شاحبة هنا او هناك، وهذه الصورة تفترض وقفة جادة، ومسؤولة، بعيدا عن  الهاجس الاسكاني  والخدماتي الاضطراري، وقريبا  من الضرورة التي  تقتضي اعادة النظر ب(صورة المدينة المركز) و(صورة المدينة  التاريخ) لان هذا الاقتضاء  يعني  ايجاد  الخطط والبرامج  والتنسيقات مع الجهات  الهنسية والثقافية الوطنية والدولية،  لاستعادة المدينة بوصفها ارثا انسانيا،  ولوقف الخراب  المديني، ومنع  الاستمرار  في توليد المزيد  من العشوائيات  الاسكانية والتجارية  والخدماتية والتسويقية..

صورة المدينة.. مضمون المدينة
فكرة  المدنية  تعني دائما العلاقة مع المكان،  مثلما تعني مجموعة من الفعاليات والممارسات والانظمة والقيم  والعلاقات والمظاهر  التي يتم  تبادلها داخل المكان،  و رغم كل ما يقال عنها  في سياق الحديث عن  هذه المضامين والقيم والممارسات والخبرات، الاّ انها تبقى في الاساس اشكالا ومظاهر، وهذه الاشكال والمظاهر هي التي  تعبّر عن وجود كل هذه المضامين والقيم، وتقدم  لنا المدينة  في السياق الاستعمالي للاشكال  والمظاهر التي  تتاصل فيها النظم الاجتماعية والعلاقات الثقافية، والحاجات والحقوق وقيم الرفاهية والمعيش، مثلما  تتبدى فيها مظاهر عمران المدن الانيقة، بسيميائياتها  التي تؤكد  هويتها وخصوصيتها، وتحدد طبيعة  نظام  المنافع والحماية، مع وجود  شبكات الخدمات والمتع والمواصلات والشوارع الفارهة والنظيفة، والابراج العالية والمطارات الواسعة التي تؤمّن لسكان  هذه المدينة خدمات سهلة ومريحة، فضلا عن توفيرمنظومات عالية البرمجة للخدمات الراقية التي تقدم نفسها دون تعقيدات وفي اوقات لاتضع الناس امام مظاهر من الصعب تفادي آثارها وضغوطها، وهو مايعني ربط  هذا التحول  الخدماتي  بتنظيم  المدينة وتيسير خدماتها ضمن مشروع عمراني ينهي فكرة(التريّف) التي اتهمت به  بغداد، وبعض المدن العراقية الاخرى..
المدنية بنت القانون، او ربما ان القانون هو ابن المدنية،  اذ يعزز كلاهما فاعلية الآخر ودوره في صيانة فكرة المدينة  في عمرانها ونظامها  وفي ديمومة صلاحيتها  للمعيش والامل والرفاه، لانهما يوفران للانسان فرصا متكافئة للوجود، والعيش ويضعانه امام شروط للانسنة والمواطنة والحقوق والمسؤوليات..
التوصيف الاشكالي لمدينة معقدة مثل بغداد، يجعلنا الاكثر قربا للحديث عن الواقع العراقي برمته، وعن الكيفية التي يمكن ان تتعاطي بها المؤسسات الوطنية مع فكرة صناعة المدينة.  فاين هو الشكل الحضاري الذي نطمح له في صيانة هذه المدينة؟ واين هي المظاهر الحضرية التي  تحد من العشوائيات، وتخفف من الاختناقات؟  واين هو الجهد الهندسي الاستشاري  لمواجهة  هذه الازمة المعقدة؟ وهل هناك رؤية  وارادة حقيقية فعلا لمواجهة ذلك؟ وهل يمكن العمل على انجاز مظاهر حقيقية وعملياتية للتمدن  الحضري مثل  الجسور العالية،  ومشاريع الابراج التي يمكن ان تضبط النمو الغرائبي  للعشوائيات الاسكانية والخدماتية في توسيع فكرة البناء المديني؟
هذه الاسئلة الاجرائية ترتبط بطبائع المشكلات التي  تعاني منها  المدينة، وتأمين الفرص التي يمكن ان تكون مصادر لمواجهة خراب المدن، اذ بات  هذا الخراب داخليا، وليس بفعل  الغزوات كما كان يحدث في الحروب  القديمة، ولعل من ابرز  مظاهر هذا الخراب هو  التجاوز على بنية المكان، واستغلاله لصالح التمدد  العشوائي، او  انهاك التصميم الاساس بتوظيفات طارئة، تعكس ضعف الادارة في التعاطي من التغايرات  التي تحدث في هذه المدينة او تلك..
ان انتاج المدينة العراقية واعادة توصيفها الحضاري والجمالي والخدماتي، هو ابرز  استحقاقات مواجهة ظواهر الموت والعدم التي اشاعها النظام الدكتاتوري السابق في حياة هذه المدينة، واغرقها بكل علامات الفقر والعزلة والتصحر وسوء الخدمات، بل ثمة من يقول ان الجهات المعنية في هذا النظام امتنعت عن بناء اي برج سكني او حضاري يعلو على قبة نصب الشهيد في بغداد.. 
هذا الجهل هو الذي اصاب المدينة بالشلل وبالتالي اصاب الشكل الحضاري لهذه المدينة بالغياب، وحوّل المدن خاصة في الجنوب الى جغرافيا معتمة تمد افقيا دونما تخطيط عمراني، ودونما استثمار حقيقي للمكان ليكون مصدرا للرفاه والجمال والعمل والحفاظ على البيئة من اخطار التصحر الجغرافي والسلوكي.
لكن  اليوم  نجد  الكثير من  مظاهر الاهمال واللامسؤولية  في التعاطي  مع  فكرة المدينة  وحمايتها، اذ  تخضع  المدينة للعشوائيات، وللتسكين، وهشاشة التخطيط، وضعف  وجود  الخطط الاستعادية، والبرامج التي من شأنها  ان  تصطنع   للمدينة  وجها  حضريا وعمرانيا، وتنظيميا على المستويات كافة  بما فيها   المستوى الخدمي، وهو مايعزز  قوة المدينة ازاء تنامي العشوائيات، وازاء تحديات  الارهاب  والعنف..
اعتقد ان مسؤولية امانة بغداد خطيرة في هذه المرحلة، ليس لمنح بغداد مثلا امتياز المدينة حسب، فهي مدينة عالقة باهداب التاريخ وجزء من ثقافته الشعبية، وربما جزء من مقدسه القديم، بل لصناعة المدينة الجديدة التي تحسّن فعل التاريخ  وتغسله من الغبار، والتي يمكن ان يدرك الانسان من خلال شكلها حيوية دخوله الى عصر جديد. 
واحسب ان مبادرة معينة اجرائية في تنفيذها المباشر، كأن تكون اختيار شارع من شوارع المدينة ليكون نموذجا للتأهيل والعمران والبناء، وبالتالي اعطاء ثقة للمواطن والمستثمر بأن مستقبل شوارعنا ستكون هكذا، ومدننا ستكون هكذا، وان ابراج مدننا ستطاول السحاب لكي نضع انفسنا حقا عند عتبة الحضارة وشكلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق