بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

الدور السعودي في اجهاض الثورات العربية د. سعيد الشهابي





سيظل الصراع على النفوذ في المنطقة العربية محتدما على صعدان عديدة. فهناك الصراع الايديولوجي بين الفئات والاحزاب لكسب الرأي العام والتمدد في اوساط الشباب والعمال وبقية فئات المجتمع. وثمة صراع بين القوى الكبرى على النفوذ يظهر تارة ويتلاشى اخرى، واتضح ذلك مؤخرا بالشد والجذب بين واشنطن وموسكو في اجواء الازمة السورية. وثمة صراع بين الدول الاقليمية نفسها، وفي مقدمتها السعودية وتركيا وايران. وقد يكون الصراع من اجل وضع اليد على ثروات المنطقة او بهدف كسب مواقع استراتيجية تستخدم في التنافس الدولي بين الشرق والغرب، وقد يتضمن ابعادا ثقافية او ايديولوجية. اما الصراع بين الدول الاقليمية فيمكن اعتباره الاطار الاوسع لما شهدته المنطقة في العامين الاخيرين، وتجلى بشكل اوضح ازاء المسألة السورية.
واذا كان الصراع الدولي بصوره الايديولوجية او الاقتصادية هو الاقدم والابعد عن دائرة التأثيرات المحلية، فان التنافس بين الدول الاقليمية غير ثابت، بل يخضع للتغير مع اضطراب موازين القوى الاقليمية من جهة والقدرات الذاتية والتوجهات الايديولوجية لدى الدول الاقليمية الكبرى من جهة اخرى. ومنذ رحيل جمال عبد الناصر قبل اكثر من اربعين عاما، تراجع الدور المصري في الصراع على النفوذ، وتقلصت القوة الذاتية للمنطقة مجتمعة بسبب غياب الاطروحة السياسية الايديولوجية ذات الامتدادات الجماهيرية، فتعمقت النزعات المرتبطة بالدولة القطرية، حتى اصبحت دويلات صغيرة في المنطقة تبحث عن ‘هوية’ في التاريخ او العادات او المستوى الاقتصادي الحاضر. وفي غياب الوعي الشعبي بضرورة التغيير، ونتيجة للقمع السلطوي الممنهج الذي ميز انظمة الدولة القطرية في العقود الاربعة الاخيرة، لم يكن هناك حضور جماهيري في المعترك السياسي، ونجم عن هذا الغياب تلاشي الموقع السياسي للعالم العربي، واصبح الصراع ‘ذاتيا’ اي داخل القطر الواحد، ولاهداف محلية محدودة. وشيئا فشيئا تراجعت مفاهيم ‘الامة’ و’الملة’، واصبحت مصطلحات مثل ‘الوحدة’ و’التضامن’ بمثابة السخرية. وانحصر الصراع ضمن الحدود الجغرافية لكل من هذه الدويلات التي عاش العديد منها في ظل هيمنة الدول الغربية ذات الاطماع المتعددة.
كيف يمكن توصيف الوضع الحالي في ضوء هذه المزاعم؟ هل هناك صراع بين الدول الاقليمية؟ لماذا؟ وما هي قضايا الاختلاف؟ ما دور الاجنبي في تأجيج هذه الصراعات؟ وما موقف الشعوب منها؟ فاذا كان الصراع في غياب النهضة الشعبية محصورا بالتنافس على المصالح او الاختلاف على الحدود والمياه البحرية والثروات الطبيعية، فان حالة النهضة الشعبية نقلت الصراع الى آفاق أرحب، فتدخلت عوامل الايديولوجيا بقوة على محاور الصراعات. وجاء ‘الربيع العربي’ ليحرك النزاعات الاقليمية بقوة. هذه المرة لم يغب البعد الايديولوجي عن الصراع، بل كان في عمقه. وتصدرت قوى الثورة المضادة ذلك الصراع، فعملت طوال الثلاثين شهرا الماضية بدون كلل، ووضعت كافة امكانات الدول المتصارعة في متناول مخططي تلك الصراعات. كانت الثورات اعلانا صاخبا عن تحول كبير مرتقب في المنطقة، الامر الذي ساهم في دق اجراس الخطر في آذان القوى الاقليمية المتنافسة وفق خطوط المصلحة الوطنية والتنافس السياسي والاقتصادي، وفي بعض الحالات، وفق خطوط التماس المذهبي، والقوى الدولية التي اصبحت مطالبة بموقف مع هذا الطرف او ذاك، وفق خطوط تاريخية من العلاقات والمصالح المشتركة. ويمكن النظر الى الموقف الروسي ازاء الازمة السورية من منظور الصراع على المصالح بين روسيا والولايات المتحدة الامريكية التي تميزت سياساتها في الشرق الاوسط، وربما العالم كله، بالاستحواذ والتغول غير المسبوق. لا شك انروسيا اليوم ليست هي روسيا الاتحاد السوفياتي التي كانت علاقاتها مع المنطقة تتحرك من خلال الامتداد الايديولوجي التي كانت الاحزاب الشيوعية تمثله طوال ستين عاما. مع ذلك ادركت موسكو ان مصالحها في الشرق الاوسط تضررت كثيرا في العقدين الاخيرين لاسباب عديدة من بينها التفرد الامريكي بالمنطقة والسعي المتواصل لتهميش القوى الدولية الاخرى. وحتى الصين التي تميزت بقدر من العزلة السياسية واستهدفت في مساراتها السياسية والحقوقية من قبل الغربيين خصوصا امريكا، دخلت في تفاهم مشترك مع روسيا ازاء الازمة السورية. فالصين تدرك ان العقيدة العسكرية للولايات المتحدة متوجهة لحصارها لانها تعتبر مصدر التهديد الاقتصادي الاول لامريكا في الشرق الاوسط. وبعد حرب العراق بدأت الولايات المتحدة بنقل مراكز ثقلها العسكري خصوصا الاساطيل البحرية الى جنوب شرق آسيا تحسبا لصراع مستقبلي مع الصين، الامر الذي دفع بكين لاعادة النظر في تفكيرها العسكري بما يوفر لها حماية من التهديدات الامريكية لها.
على الصعيد الاقليمي، لم يعد خافيا عمق التنافس وربما الصراع على النفوذ بين السعودية وايران. وبرغم الموقف الايراني الذي تميز كثيرا بضبط النفس خلال ثورات الربيع العربي، فقد اعتبرت السعودية تلك الثورات امتدادا للنفوذ الايراني، واستخدمت كافة ما لديها من امكانات لمواجهته، وفي مقدمتها العائدات النفطية الهائلة، وسلاح الطائفية واعادة رسم التحالفات السياسية، وتعميق العلاقة مع الغربيين. وبعد انتهاء المرحلة الاولى من الطوفان التغييري وسقوط كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك، استطاع تحالف قوى الثورة المضادة من استعادة توازنه والوقوف على قدميه والبدء بتنفيذ مقتضيات الثورة المضادة. السعودية نظرت لمصر منذ ايام محمد علي بانها مصدر التهديد الاكبر للنفوذ السعودي الوهابي، ولذلك تواصلت العلاقات المتشنجة بين الطرفين طوال المائتي عام الاخيرة. وما تزال ذاكرة اليمنتسترجع الحرب التي نشبت بتدخل سعودي مباشر قبل خمسين عاما، حيث كاناليمن ساحة التنافس السياسي والعسكري بين مصر والسعودية. وكان خطابمصر عبد الناصر معاديا في نغمته وجوهره للاطروحة السعودية. ولم تهدأ العلاقات بين البلدين الا بعد رحيل عبد الناصر. ولذلك فعندما انتصرت ثورة الشعب المصري في بداية الامر واسقطت حسني مبارك، وقفت السعودية ضد التغيير وضغطت على واشنطن لمنع سقوط مبارك، ولكن ذلك لم يحدث. وقبلها تفاجأت الرياض بالسقوط السريع لزين العابدين بن علي، ووقفت تراقب الوضع عن كثب بدو
ن ان تكون لديها القدرة على التأثير على المسار الثوري التغييري.
ولم يكن الاستسلام او الرضوخ للامر الواقع الجديد خيارا مناسبا للسعودية وحليفاتها الخليجيات، لان ذلك يعني التخلي عن نظام حكم متميز مضى عليه ما يقرب من مائة عام.فبدأت الرياض تستثمر في المشروع المناوىء للتغييرالديمقراطي، ووضعت امكاناتها الامنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية في خدمة مشروع اجهاض الثورات. وكان من اولى الاختراقات السعودية اجتياح البحرين وضرب ثورتها بالسلاح. ولما لم يتبلور موقف عربي ضد ذلك الاجتياح، شعرت السعودية بالقدرة على توسيع تدخلاتها في شؤون الدول العربية الاخرى. واخيرا شاركت الرياض في خطة اسقاط حكم الاخوان المسلمين وزعيمه محمد مرسي. السعودية كانت ترى في حكم الاخوان نسخة ‘سنية’ من النظام الايراني ‘الشيعي’. ولا ترى الرياض تباينا حقيقيا بين النظامين اللذين تعتبرهما تجسيدا لما يطلق الغربيون عليه ‘الاسلام السياسي’، منذ انتصار ثورة ايران الاسلامية في 1979.
يمكن القول ان ايران لم تستطع مواكبة مشاريع الثورة المضادة لاسباب من بينها انتماؤها المذهبي ضمن الاطار الاسلامي، وتشبثها بالملف السوري وتشوش المشهد السياسي لدى بعض منظريها الدينيين والسياسيين والعسكريين، الامر الذي شوش خيارات الجمهورية الاسلامية. ان اسقاط نظام الاخوان، برغم المؤاخذات على اداء مسؤوليه، يعتبر خطوة اولى على طريق التصدي للانظمة الاسلامية الاخرى. وستجد ايران لاحقا ان تقاعسها وتشوش موقفها من حوادث مصر الدرامية التي
انتهت بسقوط حكم الاخوان، سيشجع السعودية وحلفاءها على التصدي للنسخة الشيعية من الاسلام السياسي، ولن تكون طهران او بغداد خارج المخطط السعودي الغربي الذي يهدف لاسقاط مشروع الاسلام السياسي بكافة الوسائل وفي كل الساحات.
السعودية استعادت توازنها باعادة نظام مبارك الى الحكم، فقد حققت واحدا من اكبر الانقلابات العسكرية في العصر الحديث. وستواصل خططها، مع بقية قوى الثورة المضادة المدعومة من الغرب، ضد انظمة الحكم الاخرى التي صعدت نتيجة ثورات الربيع العربي. واذا كان التراجع الغربي عن خطة استهدافسوريا قد اعتبر ضربة للسياسة السعودية التي كانت تحرض عليه، فان الرياض تستطيع الادعاء من جهة اخرى ان ذلك يعني سقوط خيار الاخوان فيسوريا، ومعه سقوط التهديد للنظام السعودي الذي يسعى منذ قيامه للهيمنة على التوجهات الدينية في الجزيرة العربية، وتعتبر الرياض تلك الهيمنة درعا واقيا من الايديولوجيا السياسية التي يمثلها نظام الاسلام السياسي الذي تتبناه التنظيمات السياسية المحسوبة على خط الاخوان. وحتى في شبه القارة الهندية فان خط الجماعة الاسلامية يعتبر امتدادا لخط الاخوان الذي يبدو، برغم بعض المقاطع في خطابه السياسي، قريبا من مشروع الاسلام السياسي الذي تتشبث ايران به. ويكشف الموقف التركي المتأرجح بين الشعور بالانتماء للخيار الاسلامي والنظام السياسي الغربي، حالة من التأزم الفكري في الاوساط الاسلامية. فالسياسة التركية ما تزال غير واضحة المعالم. فهل هي اسلامية اصولية؟ ام نظام علماني بغطاء ديني؟ ام مشروع غربي لاحتواء ‘الاسلام السني’؟
ان ظاهرة الشد والجذب بين انقرة والرياض ستتواصل في الفترة المقبلة خصوصا ان نظام اردوغان قريب من الايديولوجية السياسية والخطاب الجماهيري للاخوان المسلمين. وفيما يعتبر الايرانيون نظام اردوغان من الناحية الايديولوجية اقرب لهم من حكم العسكر، فان مواقفه السياسية في الفترة الاخيرة خصوصا ازاء الازمة
السورية، اصبح مثار جدل شديد في طهران، وكذلك السياسة الايرانية على خط التعامل التجاري مع انقرة.
السعودية حققت بعض الاختراقات في مجال التوازن السياسي في المنطقة. فاسقاط نظام الاخوان يعتبر ضربة موجهة لمشروع ‘الاسلام السياسي’ الذي اعتبرته السعودية تهديدا لشرعيتها الدينية ونفوذها السياسي.
كما ان الوضع التونسي هو الآخر مرشح للتوتر الذي قد يؤدي لاجهاض تجربة حركة النهضة الاسلامية. وقد تضررت حركة حماس أيضا من توسع النفوذ السعودي بعد ان استدرجت والعديد من الحركات لمسايرته برغم خطره على الوضع الفلسطيني لغير صالح حماس. وكان تدخل السعودية في البحرين باكورة الانقلاب ضد المشروع التغييري الذي بلغ ذروته في الربيع العربي. وقد استطاعت السعودية اجهاض الثورة اليمنية وأفرغتها من مضامينها التغييرية، الامر الذي شجع النظام على اعادة تأهيل عناصر نظام علي عبد الله صالح لتعود الى مواقع نفوذها السابقة، على غرار ما حدث في مصر. مع ذلك فليس مستبعدا، فيما لو تحقق قدر من الوعي السياسي لدى حركات المشروع السياسي الاسلامي، اعادة شيء من التوازن وافشال الانقلاب ضد الثورة والتغيير. فالتراجع الغربي عن ضرب سوريا اضعف الموقف السعودي كثيرا، وقد يؤدي لاعادة رسم التحالفات بشكل واسع. بل لم يعد مستحيلا، في ضوء الانقلاب على الثورات وتراجع احتمالات الحرب حدوث تصدعات داخل المنظومة الخليجية التي تهيمن السعودية عليها. وقد يؤدي الصراع الايديولوجي والسياسي بين طهران والرياض لتغييرات داخل مجلس التعاون لغير صالح السعودية التي لم تعد قادرة على ادارة المسار السياسي في منطقة تحتاج لتطوير في الاداء والحكم.
فبقاء الوضع السوري متوترا، سيؤدي لاستمرار الاحتقان اللبناني خصوصا مع فشل الفرقاء في تشكيل حكومة ائتلاف وطني لتسد الفراغ الناجم عن الازمة السورية.
ويتفاقم الغضب في بيروت ودمشق بسبب التدخلات الخارجية والمال النفطي في ادارة صراع كان يفترض ان يكون مدنيا بعيدا عن التجيير السياسي لقوى اجنبية. فاللبنانيون يشعرون انهم مطالبون بدفع فواتير السياسات السعودية الباهظة الثمن والمغامرات التي لا تزيد الوضع الا تعقيدا ودموية. ان السعي السعودي لكسب الهيمنة على المنطقة واحتواء ظاهرة التغيير وافشال مشروع الاسلام السياسي، واضعاف قوى المقاومة والتمهيد للتطبيع مع العدو الصهيوني، كل ذلك اصبح في مواجهة مع جوهر ثورات الربيع العربي التي انطلقت بعفوية وصدق وبراءة، ولكنها سرعان ما اصطدمت بواقع تهمين قوى الثورة المضادة على الكثير من مفاصله. ولذلك اصبح من الضرورة بمكان ان تتحرك القوى الثورية وتتصدى للاستبداد والاستحواذ على السلطة والمال، وتفتتح طريق التغيير الحقيقي في المنطقة للولوج الى عصر الشعوب والخروج الى الأبد من عصر الانظمة الشمولية والاستبداد والديكتاتورية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق